فهم النص .. بين الحاضر وهيمنة التراث (حوار مجلة البصائر)

أجرت مجلة البصائر الدراساتية في عددها رقم 43 حواراً مع السيد محمود الموسوي تحت عنوان (فهم النص.. بين الحاضر وهيمنة التراث)، وقد شارك في الحوار مجموعة من العلماء هم الشيخ زكريا الداوود من السعودية، والشيخ عبد الغني عباس من السعودية، والشيخ مالك وهبي من لبنان، إضافة إلى السيد محمود الموسوي من البحرين. .

منتدى البصائر

فهم النص .. بين الحاضر وهيمنة التراث

rrrالسؤال الأول:سماحة السيد/ :، عند كل تحول اجتماعي - حضاري في واقعنا الإسلامي يعود الحديث إلى موضوع فهم التراث والتراث الديني تحديداً والنص الديني بشكل أخص كأهم مقوم للحضارة الإسلامية، فبعد سقوط الخلافة العثمانية في عشرينيات القرن الماضي تداول العلماء والمفكرون مسألة التجديد الديني، ومع إعلان دولة إسرائيل وبداية المواجهة مع المشروع الصهيوني وسلسلة الثورات العربية والإسلامية أيضاً تكرر الحديث مرة أخرى حول نفس المسألة، وهذه الأيام وبعد سقوط النظام في العراق وبروز تيارات مختلفة على الساحة يتكرر الحديث اليوم مرة أخرى وبشكل ملحّ حول نفس المسألة، ومن الملاحظ أن في كل محطة من تلك المحطات يميل الحديث حول التجديد الديني إلى قراءة أقرب للتيار الأقوى على الساحة، فمن الميل إلى الماركسية ومروراً بالقومية ووصولاً اليوم إلى الليبرالية.

والسؤال : هل تُعدّ هذه الظاهرة أمراً طبيعياً أم أنها خلل في الواقع الفكري ـ الحضاري للمسلمين؟ وكيف يمكن ضبط أمواج هذه القراءات المتعددة للنص الديني؟ وهل يمكن الجمع بين الضبط الحازم لقراءة النص الديني وبين الإبداع الفكري الثقافي؟

ج:  السيد محمود الموسوي:

الأمة الواعية هي التي ترتبط بقيمها ارتباطاً وثوقياً، فهي ترى في دينها الخلاص شرط اتباعه وتحويله إلى قيم فاعلة ومبادئ حاكمة في شتى المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أما حال الأمة السائد سواء قبل عدة قرون مروراً بالتحولات الحضارية التي عصفت بالأمة وإلى الآن، فهو بشكل إجمالي بعيد عن حمل الهم الديني بمستواه النظري والتطبيقي، وبغض النظر عن الأسباب التي يرجع أغلبها إلى الحالة السياسية الإستبدادية التي استولت على مواضع القرار، فإن التساؤلات التي تنشأ من هذا الوضع المتأزم وفي وضع تكون الأمة فيه بعيدة عن قيم دينها، هي في الحقيقة عبارة عن طلب للخلاص من الوضع السائد، وبحث عن بصيص أمل فيما يعتقدونه من دين تسالمت عليه العقول في أولياته.

فمن الطبيعي أن أن تنشأ مطالب للتجديد الديني في وضع بتلك الصورة القاتمة، فهذا التساؤل إذا نظرنا إليه من هذه الزاوية سيعبر عن حالة البحث عن المنقذ، على أن يكون هذا المنقذ من صميم الدين، ولا شك أن الراسخ في العقلية السائدة نتيجة الهزائم المتعددة هو أن المفاهيم التي يمتلكونها لا توصلهم إلى حالة من النهوض، فبالتالي يتم اللجوء لطلب فهم جديد للدين.

إلا أن الأزمة الحقيقية تكمن في ماهية هذا الفهم الجديد، فلقد وجدنا العديد من القراءات التي تدعي وصلاً بالدين استجابة للاحتياجات الحضارية، إلا أن الكثير منها لم يكن إلا استيراد لمفاهيم وقيم لا تمتّ إلى الدين بصلة، لهذا فإن ضبط عملية الفهم الجديد للدين، أمر مهم بل في غاية الأهمية.

والفهم الجديد هو في حقيقة الأمر ليس إلا استخراج رؤى الدين من ثوابته إلى متغيرات الزمان والمكان، من هنا نكتشف أول شرط لضبط عملية قراءة الدين وفهمه بفهم جديد، وهو أن تكون القراءة معتمدة على الثوابت من الدين ومعبرة عن روحه وعن مقاصده، فنسبة شيء إلى الدين تعني أن يكون الدين هو مصدرها ومنبعها، وإلا فإننا نحترز من تسمية اي اجتهاد لا يعبّر عن روح الدين ولا ينطلق من ثوابته.

ويمكن أن نحدد نوع الضمانات التي تضبط أي قراءة جديدة بنوعين أساسيين:

الأول: الضمانة الإعتقادية: وهي التي تعتمد على الأسس المتسالمة في العقيدة الإسلامية، كالإيمان بالله وبرسول وبالأئمة، والإيمان بمصدرية القرآن الكريم والعترة الطاهرة، ملاحظة هذا الإيمان ووضعه في الإعتبار هو الحجر الأساس الذي لايمكن التخلي عنه، وإلا فإن أي تأسيس سيكون على جرف هار، ينهار بصاحبه ويحرفه عن الإتجاه الصحيح.

الثاني: الضمانة المقاصدية: فالدين إنما جاء بمقاصد عامة وأساسية، تتوجه جميع التشريعات من أجل تحقيقها ودعم حضورها حضارياً، فأي محاولة لفهم الدين لا ينبغي أن تأتي استجابة لإرادة المجتمعات أو الرغبات الناتجة عن التحولات الحضارية كتعبير عن الضغوطات من القوى المهيمنة، وإنما هي تأتي استجابة للتحديات التي يعيشها المجتمع من أجل إنقاذه من واقعه المتردي، ليصل إلى الأهداف والمقاصد التي يبشر بها الدين، كالسلام والأمن والعدالة والحرية كما يريدها الدين، لا كما يريدها البشر.

من خلال هاتين الضابطتين يمكن للإبداع أن يحلق وللقدرة العلمية البشرية أن تنضج، فالإبداع الحقيقي يتصل بمدى مقدرة الإنسان على تحويل الأفكار إلى آليات وقواعد يمكنها أن تطبق في الخارج، فمجالات الإبداع متعددة مع فهم الضمانات، فقد يتمثّل الإبداع في القدرة على إيجاد التوازنات المتصلة بتمكين القيم في القوانين الشائكة، وقد يكون في إيجاد الأولويات، أو تبين حكم المتغيرات المتلاحقة زمانا ومكاناً.

السؤال الثاني:سماحة السيد/: في مقابل ما يمكن وصفه بالقلق والاضطراب الحاصل لدى بعض الاتجاهات في قراءتها للنص الديني؛ ينتظر المؤمنون بالمؤسسة الدينية المعاصرة أن تساهم في بلورة رؤى وآليات جديدة في قراءة النص الديني، تحافظ فيه على الأصالة وتساهم في المقابل في عملية التطوير المعاصر.

والسؤال: ما هو الإسهام الذي قدمه علماء ومفكرو المؤسسات الدينية العلمية على مستوى الرؤى والآليات في قراءة النص الديني؟.

ج: السيد محمود الموسوي:

منذ السيد المرتضى نهاية القرن الرابع و بداية القرن الخامس الهجري الذي دوّن كتابه في علم الأصول، وبعده الشيخ الطوسي، إلى ابن إدريس الحلي، والعلامة الحلي وابنه فخر المحققين،  والشهيدين الأول والثاني، وغيرهم وصولا إلى زماننا الحاضر، فإن التركيز على الأساس للبحث العلمي في مجال قراءة النص الديني منحصر في مباحث محدودة وقالب محدّد، وإن كان بعض تلك المباحث ذات أهمية، وهي آليات عملية لفهم النص، حيث قد تكونت بفعل تطور علم الأصول مجموعة من القواعد التي ساهمت في فهم النص، إلا أنها تبقى محبوسة في الشكل الذي رسمه الأقدمون لهذا العلم، فيعاد البحث في ذات المحاور وذات القواعد رفضاً وقوبلاً وسعة وضيقاً..

مازال البحث عن آليات لفهم الدين يحتاج إلى تطوير، وهذا التطوير ينبغي أن يكون نابعاً من رؤية تتفوّق على محدودية المباحث الأصولية التقليدية، وعدم الإكتفاء بتداولها رداً وقبولاً..

لعل من أهم التطورات التي جاءت في مجال تطوير بحث قراءة النص الديني هو البحث القرآني الذي كان غائباً لفترة زمنية مديدة، حيث كان النظر باتجاه الرواية في المرحلة الأولى من عصر الغيبة ثم انتقل للنظر للمبحث العقلي والأصولي، وإن كان القرآن حاضراُ بشكل عام في مباحث الأصول باعتباره نص، فتدخل مباحث الألفاظ وغيرها ضمن اهتمامه، إلا أن خصوصية القرآن الكريم تحتاج إلى بحث مكثف يضع في اعتباره خصوصية الخطاب القرآني ومصدريته الأساسية في عملية التشريع.

التجربة الرائدة التي بدأها الميرزا مهدي الإصفهاني (1303- 1365) كانت تتسم بأنها حالة من التطوير خارج دائرة المباحث الأصولية، حيث وجه نقداً للكثير من المباحث، وعمل على إيجاد مفهوم للعقل يتماشى مع توصيفات القرآن الكريم له، وتوصيف أهل البيت للعقل، فحلّت بذلك عقدة وقعت بين الإتجاه الأخباري الذي رفض العقل في التشريع، وبين الاتجاه الأصولي الذي أعطاه صفاة مغايرة لدوره في فهم النص وادراك المعارف ومتغيرات الحياة، كما انه بتقسمه للأخبار والروايات إلى روايات فتوى وروايات أصول، أعطت جانب التشريع حيوية وبعداً أوسع.

وفي عملية تطوير لمدرسة الاصفهاني جاءت تجربة المرجع الديني المعاصر السيد محمد تقي المدرسي، لتتوافق مع تلك المدرسة وتعمل على التطوير والإضافة خصوصاً في البحث القرآني الذي كان غائباً، ولقد كثّف هذا البحث في موسوعة التشريع الإسلامي المكونة من عشرة أجزاء، حيث عمل على تأسيس منظومة القيم التي تشكل الرؤى الأساس للدين واكتشاف حكمة التشريع للأحكام التي ينطلق منها لمعرفة أحكام الدين الأولية، مما يعني أن الكم الكبير من الأحكام الثانوية التي ملئت علم الفقه، تبدأ بالتلاشي، ولكن ماتزال هذه التجربة تحتاج إلى اكتشاف وبلورة على هيئة قواعد وآليات لتساهم بشكل عملي في عملية فهم النص الديني.

السؤال الثالث: سماحة السيد/: مقولة الفصل بين الدين وبين المعرفة الدينية التي يتكثف حضورها من خلال توالد آليات القراءات الحداثية ومن خلال الاختلاف الكائن بين الفقهاء وبين المذاهب ـ تطرح تساؤلات عدة؛ منها ما يتعلق بتحديد الدين ذاته، ومنها ما يتعلق بإلزامية أو شرعية المعرفة الدينية.

والسؤال: هل يمكن تجاوز إشكالية الفصل لمعرفة الدين بصورة واقعية، وكيف يمكن موائمة الاختلاف والشرعية، والاختلاف والصفة الإلزامية؟.

ج: السيد محمود الموسوي:

الاشكال الذي يؤخذ على أصحاب القراءات الحداثية بحجة التفريق بين الدين كماهية، وبين فهم الدين ومعرفة الإنسان النسبية، أنهم لم يستندوا إلى حجج وأدلة نابعة من الدين في تكوين رؤية لحل هذه الإشكالية، وإنما عمدوا إلى استنساخ الآليات الغربية التي انتجتها المحاورات والمداولات في الغرب، فبعض نزع إلى اعماد الهرمونطيقا، أو الفهم على أساس التجربة الشخصية ليكون لكل شخص إسلامه الخاص، وهي الرؤية المبتنية على شرعية تعدد القراءات كيفما اتفق.

هنا يمكن أن نعترف بهذه الإشكالية من حيث المبدأ، أي من حيث وجودها واحتياجها إلى حلول تنهض بها، إلا أن أي حل يمكن ان يأتي فلا بد ان يكون ضمن الضوابط التي ذكرناها، وهي المرتبطه بالضابط العقيدي، والضابط المقاصدي.

بالإعتماد على الضوابط الشرعية التي حددها الدين نفسه، وليس البشر من عندياتهم أو استيراداً من الغرب، تأتي بعد ذلك المعذّرية الشرعية في الإختلافات التي قد تحصل جرّاء الإجتهاد في معرفة النص الديني، لأن الإنحراف أو الخطأ المعذور لن يكون إنحرافاً عن العقيدة ولا عن مقاصد الدين وغاياته الكبرى، لأن تعدد القراءات وفقاً لمرادات الحداثة، إنما هي تعدد في الفهم حتى على المستوى الجذري، وهنا يقع التناقض، وتنتفي صفة الإلزام، وتتلاشى عملية التشريع والتقنين على المستوى الإجتماعي، التي بدورها تقوم بنسف صفة الحاكمية الاجتماعية والسياسية لقيم الدين، وهذه الخطوة تخدم غايات إبعاد الدين عن ساحة المجتمع.

السؤال الرابع: سماحة السيد/: لكل أمة وحضارة سمات مختلفة عن الأخرى، لكننا يمكن أن نتلمس قاسماً مشتركاً بين جميع الحضارات وهي الاعتماد على النص المؤسس في مراحل الانتقال الحضاري وفي مراحل التأزم وتشابك وعي الأمة التاريخي بالمعاصر، لكن الأمة الأكثر تأثراً بالنص والأكثر عناية به هي أمتنا الإسلامية لكون النص يفرض هيمنة تامة في كل مفاصل وجودنا، في رأيكم ما هي ملامح المنهج الصحيح والذي من خلاله يمكننا أن نجعل النص الديني يسهم بشكل فاعل في توجيه مسار الأمة لتواكب الأمم المتحضرة، بل لتكون رائدة التحضر في عالمنا المعاصر والذي تنتظر الأمم منا مساهمة حقيقية تخرجها من أزماتها المتكاثرة؟.

ج: السيد محمود الموسوي:

الكلام في تأثير النص في واقع الحياة المعاصرة من أجل إحراز التقدّم، والمساهمة في عملية التنمية الحضارية للأمة، يحتاج إلى بعدين أساسيين، لابد أن يدخلا ضمن دائرة الإشتغال العلمي والإهتمام المجتمعي، وهما:

الجانب الأول: الإهتمام بتفعيل القيم في ساحة الحياة بكل تشعباتها، فالتفعيل يعني أن تكون القيم والمفاهيم والأحكام في أبعادها القانونية حاضرة في الساحة المجتمعية وداخلة ضمن حيّز التطبيق، لعل هذا الجانب يعتبر بعيداً عن اشتغال علوم قراءات النص الديني، إلا أنه اشتغال ينبغي أن يأخذ أهمية بمقدار أهمية فهم النص، فالقيم مالم تطبّق فإنها تظل حبيسة التنظير، والمطلوب من النص أن يأخذ أثره في الحياة ولا يتكون الأثر إلا بالتجريب والتفعيل والإرادة الحقيقة للتطبيق.

وتواجه هذا المسار صعوبات شتّى أبرزها غياب الثقة في قيادة الدين للحياة، والخوف من الوقوع في تجارب تاريخية سابقة، استغلت الدين ووظفت القيم في مصالح الحكام، كما أن نتاج أولئك الحكام أو الاستعمار جعلت التجربة الدينية في بعدها القانوني والاجتماعي الحيوي بعيدة عن ساحة الحياة.

الجانب الثاني: وهو متصل بالبحث العلمي، وهو الإنتقال من البحث المفاهيمي إلى البحث الآلي والقانوني في فهم النص الديني،ليأخذ البحث مساره نحو تقعيد الكثير من العلوم.. فإن البحث الأصولي برغم بعض الملاحظات على مباحثه، إلا أنه في جهات عدة أخذ منحى التقعيد، وكذلك في علم الفقه بخصوص القواعد الفقهية، فتحول النظريات إلى قواعد عملية تطبيقية، يجعلها مواد منتجة للمعرفة الدينية.. فعلى سبيل المثال إننا في مجال علوم القرآن الكريم، لم نزل في بداية الطريق، فهنالك فارق كبير بين ما يراد لعلوم القرآن في منظار أهل البيت (ع) وهي انتاج المعرفة وفهم النص، وبين طريقة التداول الحالي، ففي الوقت الذي نرى أن أهل البيت (ع) يطرحون علوم القرآن كمواد منتجة ومولّدة للمعرفة القرآنية، لانجد في البحث القرآني تلك المباحث تخدم ذلك التطلع، حيث تبحث علوم القرآن خارج نطاق العلوم المختصة بفهم الدين والنص الديني، وهذه فجوة تحتاج إلى معالجة واهتمام يليق بمقام القرآن الكريم ومحوريته للرسالة.

عندئذ يمكن لمسار فهم النص من أن يساهم في بلورة شخصية الأمة بشكل أكثر فاعلية.

من مؤلفاتنا