حياتها الزوجية بين أصابعها

محمود الموسوي

قصة قصيرة

بعد الإنقطاع عن أجواء الكويت ذات البرد القارس، والصيفالملتهب، عدّة أعوام قضيتها بين ريف دمشق جنة السيدة زينب وبين البحرين تلكالجزيرة الصغيرة ..

عزمت على زيارتها مع صديق عزيز جداً، وجار قريب هو أبوحسين، الشيخ محمد حسن آل إبراهيم ..

.

حزمنا أمتعتنا ومضينا .. في الطريق كنتأحدّث صديقي عن تلك الأيام الكويتية وبما فيها من أحداث، كنت أحدثه عن مدرسةالرسول الأعظم (ص) التي درست فيها.. حيث سيراها هو لأول مرة .. لأننا كنّا متوجهينللسكن فيها باعتبارنا طلبة علوم دينية ..

وصلنا بالسلامة، ودخلنا المدرسةوعيناي تراقبان تفاصيلها، تقارنان مشاهد قبل عدّة أعوام بمشاهد هذه اللحظة،رأيتها هي هي .. وذلك التغيير الطفيف الذي طال الطلاء وبلاط السلّم لم يغيرا شيئاًمن معالمها الأصيلة .. أرانا مرافقنا الغرفة التي سوف نسكن فيها الأيام القلائل،وهذه المرة كضيوف ..

استقر بنا المقام فيها، وأعددنا برنامجنا الذي سوفنقوم به خلال هذه الزيارة ..

زيارة لمكتبة الرسول الأعظم العامة.. والمسرحفيها..

زيارة لآية الله السيد محمد رضا الشيرازي الذي كان مستقراً لفترةهناك..هيئة محمد الأمين ..صلاة الجماعة وديوانية المسجد ..

ولمننس نصيبنا من التمتّع بمنظر ساحل البحر وأبراج الكويت التي كانت قريبة جداً منالمدرسة..

في تجوالنا على معالم المدرسة وتفحصها بشكل دقيق .. كنت أحدّثصديقي عن مدى ثقة المجتمع بهذه المدرسة العريقة التي أثّرت في المجتمع الكويتي بشكلكبير، وكيف أنهم يحترمون العلماء ويستشيرونهم في أمورهم المختلفة ..

تجولنافي مكان ثابت إلا أن تجوالنا الحقيقي كان عبر تاريخ هذا المكان .. فقد انتقلنابخيالنا من زمن إلى آخر ..

****

في ذات الزمن الذي كنّا نتجوّل فيه،ولكن في مكان آخر من الكويت.. تجلس امرأة في بيتها الفاره أسيرة الوحدة ويقضمضجعها السكون ..

هي متزوجة إلا أنها ليست كالزوجات الأخريات ..

قبلزواجها كانت تعيش في بيت أبيها مع أخوة وأخوات وأقارب أخر .. مستأنسة باجتماعهم ..

ومحلقّة بمشاعرها معهم .. وبعد زواجها كانت ترجو أن تكون أكثر سعادةوأنساً..

مضت أيام خطوبتها كأحلى من العسل ..

وهكذا الأيام الأولى منشهر العسل ..

واكتشفت بعد ذلك أن العيش في العسل كان محدداً بوقت زمني جامد، هو شهر فقط ..

تحمّلت برنامج زوجها اليومي الذميم، يذهب لوظيفته ويرجعليأكل وينام قليلاً، ثم يخرج مع أصدقائه في هذه الديوانية وتلك وفي هذا المقهىوذاك .. يأتي آخر الليل لينام ..

وكأن تلك الزوجة قطعة من أثاث ذلك المنزل ..

فالمنزل كبير وفاره ففيه كل الكماليات والجماليات، وكانت كما يبدواتنقصه قطعة أخرى ..

فذهب إلى بيت من بيوت الناس، وأعطاهم مالاً يسمونه مهراً وجاءبتلك القطعة لتكمّل ديكور المنزل..

لم يقل هو هذا الكلام، ولكن تصرفاتهكانت تقول ذلك بكل فصاحة ..

تحمّلت وحدتها القاتلة لفترة من الزمن .. ولكنفي هذا اليوم، كان قد واعد أصدقاءه ليسهروا عنده ..

جلسوا وشربوا الشاي،و نفثت في صدورهم الشيشة بدخانها ..

والزوجة تقوم بإعداد النواقص، عندماينتهي السكر أو تحتاج الشيشة إلى فحم جديد ..

سمعت هي عن طريق المصادفة بعضالأحاديث .. إنه صوت زوجها ، يقول: (يبي لي آخذ ثانية) .. وهو يقصد بكلامه هذا أنهيريد أن يتزوج من زوجة ثانية ..

لم تحتمل ذلك .. خصوصاً بعد كل ذلك الإهمال ..

نادته غاضبة ..

نعم ماذا تريدين..

استنكرت عليه مقولته .. دافع عن نفسه باستهتار .. اشتد الكلام في الكلام ..

صرخ في وجهها : يالله .. روحي أنت طالق ..

فتحت عينيها بأقصى ما يمكن أن تنفتح عينان .. ووضعتيدها على ما فتحته من فمها ..

مندهشة متألمة .. عصفت بها المشاعر واختلطت الأحاسيس .. وتبدّدت كل موازينها ..

وثوابتها ..

قفل راجعاً إلى أصحابه في الديوانية، وخرج معهم ..من غير اكتراث..

قال : لنذهب إلى البحر أبرك لنا ..

ها هي مرة أخرىتجد نفسها في ذلك المنزل الفاره وحيدة من جديد، لكنها هذه المرة قطعة أثاث محطّمة ..

والأثاث المحطّم، مكانه القمامة .. فهو قالها .. أنت طالق ..

أخذهاالغضب إلى قرار سريع ..

تركت كل ما تملك .. وحملت نفسها فقط .. نحو الخارج .. خرجت من البيت لتذهب ..

أين تذهب؟

لم يخطر هذا السؤال ببالها ،إنما القرار أن تخرج وحسب ..

وبالفعل وجدت نفسها في الشارع الذي لا يؤّديإلى مكان تعرفه ..

هل تقوم بتغيير الشارع؟ ..

نعم .. فالشارع الآخر .. أيضاً لا يؤدي إلى مكان تعرفه ..

لا يوجد إلا بيت الأهل، وبيت الأهل لايوجد به أي مكان لها .. فإنهم كانوا ينتظرون أن ينقص شخص من البيت ليعاد ترتيبهوتفصيله على مقاس الساكنين فيه ..

بحثت عن شارع يؤدّي بها إلى مكان يمكن انتجلس فيه .. فلم تجد..

لا يوجد إلا شارعاً واحداً، هو نفس الشارع الذي جاءت منه .. إنه يؤدي إلى بيتها الزوجي ..

ترى نفسها أنها استسلمت .. ورجعت إلى بيتها ..

دخلته ولا تدري ما موقفها وموقعيتها من هذا المكان .. إنه خال لم يأتالزوج بعد ..

لم تتحيّر كثيراً .. قفزت في رأسها فكرة الإتصال بالعالمالخارجي عبر أزرار الهاتف ..

توجهت باندفاع نحو الهاتف .. لديها دفترالأرقام المهمّة التي تحتاجها في حياتها ..

بحثت عن الرقم .. وتوجهت أصابعها نحوالأزرار .. وضغطت عليها..

*****

انتهينا من التجوال في المدرسة .. فقررنا أنا وصديقي الشيخ أن نذهب للمكتبة العامة ومسرح الرسول الأعظم .. ارتديناملابسنا وهممنا بالخروج ..

وفي الأثناء .. سمعنا رنين هاتف ..

ترينترين .... ترين ترين .....

نظر كل واحد منّا للآخر .. فالشيخ يأتي لأول مرةهذا المكان ، فبادرت عيناه لتشير لي برفع السماعة ..

ذهبتُ للهاتف ورفعتُالسماعة .. نعم ؟

إنه صوت امرأة .. تبكي بحرقة .. وعندما سمعت صوتاً يسمعها .. أجهشت بالبكاء طويلاً.

أختي .. هدّئي من روعك.. قوليمالمشكلة؟

وحكت لي مشكلتها ومعاناتها مع زوجها ..

لكنها تسأل، ماذاتفعل الآن .. لقد طلقها ولم تجد ملجأ إلا البيت ..

قلت لها مطمئناً : اسمعيأختي أنت الآن لستِ مطلّقة .. وأنت زوجته وعلى ذمته.

بادرت .. لكن كيف، هو قالأنت طالق..

نعم هو قال هذا .. ولكن فقه أهل البيت (عليهم السلام) يضع للطلاقشروطاً حتى يحكم العلاقة الزوجية صوت العقل والحكمة .. وليس الإنفعالات والغضب ..

فلابد أن يكون هناك شهود على الطلاق..

ولابد أن يكون هو في حالةطبيعية لا غضباً أو شيء آخر..

وكذلك شروط للمرأة ..

هنا .. رجع قلبهاإلى مكانه الطبيعي .. و استطاعت أن تتنفّس تنفساً طبيعياً .. وخفّت نبرتالبكاء..

لقد اطمأنت أنها مازالت في بيتها..

قالت : الحمد لله .. يعني أنا في بيتي الآن ..

قلت لها .. نعم أنت في بيتكِ ، ولست فيبيتكِ..

قالت كيف ؟

قلت لها السكن الحقيقي هو سكن العلاقة الزوجية .. فالزوج سكنه زوجته، والزوجة سكنها زوجها ..

إن الله تعالى يقول : (وَمِنْآيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَاوَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍيَتَفَكَّرُونَ)..

قالت نعم .. أنا أعاني من الوحدة، هو يتركني ويذهبلأصدقائه ..

قلت لها وكيف كان أيام الخطوبة .. قالت كان لطيفاً للغاية وحتى شهرالعسل وبعدها .. تغيّر..

العسل لابد أن لا يكون شهراً فقط.. إنه العمروالحياة بأكملها، القرآن قال (لتسكنوا إليها) أي الزوج والزوجة كل يسكن ويلجأللآخر ويطمئن عنده .. وقال تعالى أيضاً :

(وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُاللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِوَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

فكما يسكن الإنسان في الليل والنهار، يسكن إلىشقّه الآخر وهو الزوج .. وبمقدار بقاء الليل والنهار لابد أن تستمر العلاقة الزوجية .. بالحب والطمأنينية .. وليست شهراً واحداً فقط..

حتى لو اختلط بها يوماًمن الأيام سوء فهم أو مشكلة .. فهي تبقى سكن بشكل عام، كما أن الليل والنهار قدتكون فيهما عاصفة أو خسوف يغيره .. إلا أنهما يبقيان سكنا..

وهكذا فمنزلك لا يكون ملكاً للآخرين إذا تسرّب فيه الماء من الأنانبيب.. إنك تحتاج إلى اصلاحه وحسب..

قلت لها .. أتفعلين كل ما تفعلينه في الأيام الأولى من الزواج ؟

ردّت : لا .. ليس كل شيء ..

أتعرفين لماذا يخرج مع أصدقائه؟؟

قالت : لا

قلت لها : الخروج مع الأصدقاء شيء طبيعي .. لكن غير الطبيعي أن يهمل الإنسان زوجته ويفضلخروجه ذلك على خروجه مع زوجته أو بقائه معها ..

وقد تكون المشكلة منالجهتين .. منه، ومنكِ .. ولكن بما أنك أنت المتصلة، فلابد أن تبادري لتحملالمسؤولية ..

وماذا أصنع ؟

قلت لها : خذي وقة وقلماً واكتبي ..

لحظة .. انطلقت بسرعة لتأخذ ورقة وقلماً ووضعت القلم على الورق متنظرةكتابة ما ستسمعه، لعله يغيّر من حياتها..

حاولت أن تهدّئ من سرعة أنفاسها،لسرعة انطلاقها ..

وقالت : نعم، تفضل، ماذا أكتب؟

قلت لها : ضعي قائمةتحت عنوان (أشياء كنت أفعلها وتركتها الآن)، وقائمة أخرى تحت عنوان (أشياء يحبها)، وقائمة أخرى (أشياء سمعتيه يتحدث عنها بشكل عابر) ، وقائمة أخيرة تحت عنوان(أشياء لا ينبغي أن أتركها)..

تهمهم مع نفسها .. ينساب القلم بسرعة كالبرقفي كتابة عناوين القوائم ..

هل كتبتِها ؟ ..

ردّت : أكيد .. ولكن . ماذاعن القائمة الأخيرة؟

قلت لها، كل القوائم تعرفينها .. ولابد أن تضعي أسفلهانقاطاً وتحاولين في كل مرة أن توفري له شيئاً منها، وتفاجئنه بأخرى ..

أماالقائمة الأخيرة، فهي أشياء لابد أن تراعينها لكونها أشياء محببة بشكل عام، وهيمطلوبة بل مستحبة .. مثلاً ، احترام الزوج .. ادعي له عند خروجه واستقبليه بابتسامةعند قدومه ..
كوني في عينه كما يحب أن يراكِ في الشكل والمظهر..

ادخلي عالمهواهتماماته وعمله بالطريقة التي يحبذها ..

وهكذا مجموعة أمور ..

بدتمستبشرة .. بل سعيدة .. استعادت أنفاسها .. ودقات قلبها ..

أشكرك كثيراً .. أنا ما كنت أعرف ماذا أفعل .. وبفضل الله و بفضلك .. عرفت كيف أحافظ على حياتيالزوجية..

وكأمرأة روت ظمأها مما كانت تبحث عنه .. انهالت بكلمات الشكر والثناء .. والدعاء ..

أنتِ بفضل الله تعالى، التي أنقذتِ حياتكِ الزوجية بنفسكِ.. فأنت من ضغطت على الأزرار ورفعت السماعة طلباً للمساعدة ..

فقد يصيبك ألم فييدكِ، فتتصلين بالمستشفى لتحجزي موعداً ..

وقد تحتاجين إلى اسطوانة الغازفتتصلين لياتوك بأخرى مليئة ..

وقد ينقصكِ زيت لقلي البطاطس فتتصلين للسوبرماركت ليأتوك به..

ولكن قد لا نتصّرف إذا احتجنا إلى مساعدة في حياتناالزوجية .. فلا نتّصل أو نقرأ أو نتحاور ..

قالت : نعم صح كلامك صحيح ..

قلت : في أمان الله و وفقك الله .. و وضعتُ السماعة ..

فتحنا بابالمدرسة أنا وصديقي، وخرجنا لنكمل مشوارنا نحو المكتبة والمسرح..

أخبرتهبكل المشكلة .. تبسّم ابتسامته اللطيفة التي لم تخلو أبداً من معانيها الخاصّة ..

ولماذا تبتسم ؟؟

قال : الحمد لله الذي كان أنت الذي رفع السماعة ..

عبارة ثقيلة جداً بمعاني حسن الظن .. الذي يعطي الثقة والتشجيع .. وكانتهذه من مميزات صديقي الشيخ ..

قال : قل لي، هل تتوقع أن الزوجة ستطبّق ماقلته لها؟

قلت له ونحن نترجّل مشياً ..

عرفت من كلامها أنها ستكونحريصة على تطبيق سياسة القوائم .. وأعتقد أنها ستلصق الورقة على خزانتها من الداخللتراجعها بين الحين والآخر ..

أولاً ، لأنها خطوات عملية وسهلة ..

وثانياً لأنها قائمتها الخاصّة بها..

وأهم شيء أنها ستنقذ حياتهاالزوجية وستحولها إلى نعيم ..

ولاشك أن أي زوج سيلقى ذلك، سوف يتغيّر بلسيقدّم أكثر مما يأخذ..

دخلنا المكتبة .. وجلسنا في قاعتها الهادئة بينالكتب.. وكاعدته عامل المكتبه .. استبقنا بالشاي (المخدَّر) قبل جلوسنا..

تمّت

2007م

من مؤلفاتنا