الأمل

قصة قصيرة
بقلم : محمود الموسوي

أصدقاء خمسة من صغار السن ، اعتورت براءتهم عزائم الرجال ، فأبحروا في قارب صغير يخص قريب أحدهم.

في عرض البحر، رمى أحدهم المرساة بعد أن أوقف تشغيل المحرك .. تأكدوا أنهم لا يشاهدون الشاطئ نظراً لبعد المسافة ..إذاً ، هنا مكان صالح للصيد وهنا مرتع الأسماك..

.

عرفوا ذلك ، لأن حبل المرساة كان على آخره ، فالمياه هنا عميقة جداً..
الصيد موفق هذا اليوم ، فمنذ الدقائق الأولى كان في حوزتهم أربع سمكات ، معها عدد من الحبّار..

لاحظ واحد من الصغار أن القارب يسير!
كيف؟

تأكّدْ من الحبل ، هل المرساة ممسكة في قعر البحر جيداً؟

رد آخر، نعم هي كذلك.. وحتى لو كانت غير مثبتة ، فمن المستحيل أن يسير المركب هكذا بهذه السرعة نحو جهة معينة..

لقد لاحظ الجميع بعد أن وقعت أباصرهم على سطح الماء أن القارب يجري مسرعاً، وكأنه ينحدر من أعلى سيل.. كأن شيئاً يجرّه إليه..

أخذت عيونهم البرئية تتجوّل سريعاً في كل الجهات، حتى رأى واحد منهم من بعيد إعصاراً يسحب ماء البحر إلى قراره ، وقد نحتت حفرة في ماء البحر تأخذ كل شيء إلى قاعه..

يا للهول ، انظروا هناك.. إن إعصار يجرنا إليه..

بسرعة أدر المحرك ، وارفع المرساة ، هكذا صرخ أحدهم..

استنفر الجميع و وقف شعر أبدانهم الناعمة من الوجل .. وتحول بريق البراءة في عيونهم إلى لمعان الخوف..

عمد أكبرهم سنّاً إلى المحرك ليديره .. لكنه فوجئ بعدم استجابة المحرك ، مالذي حصل ، لقد كان سريع الدوران ، هل أنا أرجف إلى درجة أني لا أقوى على تشغيله..

أخذ يحاول مسرعاً .. ويحاول مرة تلو الأخرى .. حتى بدى منهمكاً ، عرقه يتصبب على زيت المحرك .. وعروقه بدت كأسلاك ملوية على يديه..

الإعصار المائي يجر القارب بقوّة.. وكأنها قوة عاقلة تأخذهم إلى غورها باتجاه سديد.

حالة الإستنفار تلك بدت متغيرة..

بالإضافة إلى المنهمك في محاولاته لتشغيل المحرّك..

كان أحدهم يسدّد نظره بقوّة لمركز الاعصار الذي يجذبهم ، ولا يلتفت لأي جهة أخرى..

وأحدهم أمسكت يده سكيناً ، وهي تقطّع الحبّار ، ذلك الحيوان البحري الرخوي .. يقطعها قطعاً صغيرة ويضرب عليها بما أوتي من قوّة ..

وطفل آخر أبصر من بعيد لوناً أسوداً، اعتقده قارباً آخر ، فأخذ يصرخ بقوّة : النجدة ، النجدة ..

وصوته يدوي في الأفق..

بينما يستمر الإعصار في سحب القارب إليها ليلتهمه ..
انشغل آخر بالتعليق و الضحك .. يقول: يا للخسارة ، غداً سيكتبون في الصحيفة بالبونط العريض (خمسة أصدقاء التهمهم إعصار البحر) ولن نتمكّن من رؤية الخبر ..

إنه يتهكم .. ويسخر .. ويضحك ..

لطالما تمنينا أن نرى أسماءنا في الصحيفة ، كان المفترض أن نراها ضمن الناجحين .. والآن ستكون ضمن الهالكين .. ومع ذلك لن نراها ..

لا بأس سيراها الآخرون .. و يستمر بالضحك..

الجميع مشغول بشيء ما بقوّة .. وحتى الإعصار يجرهم بقوّة ..

اتسعت حدقتا الطفل الذي ينظر للإعصار .. وسكن الجميع .. وبلغت القلوب الحناجر ..

فلم تبق إلا أمتاراً بسيطة و يتحولون بعدها من سطح البحر إلى قاعه..

سواعد أكبرهم كأنها ستتفجّر من ضغط المحاولات المستميتة بتشغيل المحرك ..

بقيت خمسة أمتار تقريباً ..

أربعة ، بل ثلاثة ..

إثنان .. يستعد القارب لطأطئة رأسه استسلاماً للاعصار ..

يدوي صوت المحرك معلناً نهاية استسلام القارب.. يرفع القارب مقدّمه .. ويثنيه المشغّل عن اتجاهه بسرعة خاطفة .. ليحوله في اتجاه معاكس .. و ينجح في الخروج..

رجعت القلوب البريئة إلى أماكنها.. و لم يلتقط الجمع أنفاسهم بعد..

القارب يسير باتجاه اليابسة ..

رافقهم السكون و الصمت حتى وصولهم إلى مرسى البلدة، ولم ينبت أحد منهم ببنت شفة..

****

بعد أكثر من عشرين سنة على الحادثة .. قال أحد الأطفال .. لو لم يكن هناك من يحاول تشغيل المحرّك ، لكنت أنا مكانه.

و كما يبدوا أن هذا هو رأي كافة الأطفال سابقاً .. الشباب الآن.

تمت 2007م
محمود الموسوي

من مؤلفاتنا