سورة الفيل وقريش

بسم الله الرحمن الرحيم
( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ، ألم يجعل كيدهم في تضليل ، وأرسل عليهم طيراً أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجّيل ، فجعلهم كعصف مأكول ) .

.


بسم الله الرحمن الرحيم
( لإيلاف قريش ، إِلافهم رحلة الشتاء والصيف ، فليعبدوا ربّ هذا البيت ، الذي أطعمهم من جوع وءامنهم من خوف ) .

المعاني : ( تضليل ) أي إضلال ، لا يهتدي إلى الغاية ، ( أبابيل ) : جماعات متفرقة ، ( سجّيل ) : الطين المتحجّر ، ( عصف ) : ورق الزرع ، أو قشر الحب .

نتناول سورتي الفيل وقريش معاً ، لأنهما مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً ، ارتباط البرهان بالنتيجة ، حتى أن المصلّي كما روي عن أهل البيت عليهم السلام ، بأنه يستطيع في صلاته أن يقرأهما معاً بعد سورة الفاتحة ، فكأنهما سورة واحدة ، ولأن سور القرآن مترابطة مع بعضها البعض في الترتيب ولكل واحدة علاقة بالتي قبلها والتي بعدها ، فقد جاءت سورة قريش بعد الفيل ، والترابط بينهما نراه أوضح من أي سورة أخرى .
رعاية الله
من الحقائق الثابتة والشائعة هي قصة أصحاب الفيل وما جرى عليهم من العذاب الإعجازي ، فقد انتشرت هذه الحادثة بين كافّة الناس حتى أنهم أرّخوا بها أحداثهم وسمي ذلك العام بعام الفيل ، ولم ينكرها أحد من الناس حتى من لم يرها رأي العين ، فـ ( ألم تر) رؤية معرفية لا بصرية ، لأن الرسول (ص) كان قد ولد في ذلك العام ولم ير الحادثة رأي العين ، بل رآها مسلّمة بين الناس ، ( كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ) ، الذين جاءوا لهدم بيت الله الحرام ، هذه هي المسلّمة التي شاهدها الناس ، أن الله تعالى هو الذي فعل بهم ما فعل ، وليس الناس ، ( ألم يجعل كيدهم في تضليل ) فإن الله عز وجل هو الذي منعهم من هدم البيت الحرام ، ولبيان أن ذلك الفعل ليس من أفعال البشر إنما جاء من السماء كعذاب قوم لوط ، فإنه تعالى الذي صدّهم ( وأرسل عليهم طيراً أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجّيل ) ، عذاباً إلهياً من السماء وبمخلوقات ضعيفة ، وبحجارة من طين كالذي يمشون عليه ، وكما خلقهم الله من طين . فهنا تتجلّى ثلاث حقائق :
1/ أن أسلوب الردع كان أسلوباً إلهياً قد أنزله ربنا عز وجل على قوم لوط من قبل ، في قوله تعالى : ( وجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيّل ) .
2/ أن المادة التي رماهم بها الله جلّ جلاله هي مادة الخلق الأساسية وهي الطين ، قال تعالى : ( هو الذي خلقكم من طين ) الأنعام /2 ، فـ ( حجارة من سجيّل ) ، أي من طين كما في سورة الذاريات ( لنرسل عليهم حجارة من طين ) وهي ذاتها التي عبّر عنها بالسجيل في موضع آخر .
3/ ( فجعلهم كعصف مأكول ) ، فقد كانت عاقبتهم الفناء من جهة ، وجعلهم في صورة متميزة ، لترسخ في الذهن تلك العاقبة ، ولا ينساها الناس .
ففي هذه الحادثة هناك انسجام وتطابق فيما بينها وبين العقاب الذي ينزله الله عز وجل على الأقوام الذين كذّبوا الأنبياء وصدّوا عن سبيله ، فمن هنا نستفيد العمق الذي أرادت سورة الفيل أن توصله للرسول (ص) ومن خلاله لكافة البشر إلى يوم القيامة في كلمة ( أرءيت ) في بدء السورة ، فإن هذه السورة كأنها حديث شعيب لقومه مدين في جانب من جوانبه ، بعد أن رأوا كيف فعل الله بقوم نوح وهود وصالح ، حيث قال الله تعالى على لسانه : ( و يا قوم لا يجرمنّكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد ) .
فسورة الفيل ليست مجرّد حادثة تاريخية بتراء ، فقد ذكرها القرآن للاستدلال من خلالها بأحقية البيت الحرام منطلق الرسالة الإسلامية ، وفي موعد ولادة نبينا الكريم (ص) ، فتلك الألطاف التي رعى بها الله عزّ شأنه البيت الحرام وقريش لهي دليل صارخ على قدرة الله وحفظه للبيت الحرام ، ليكون منطلق الرسالة المحمدية التي هي من سنخ جميع الرسالات الإلهية .
موطن الرسالة
إن الله تعالى قد حفظ بعذابه الذي أنزله على أصحاب الفيل بيته الحرام وهو المكان المقدّس ومحور عبادة الله ، وهنالك سبب آخر وهو ( لإيلاف قريش ) وهم الذين يستوطنون مكة المشرّفة ، فبدفع أصحاب الفيل الذين جاءوا بكيدهم لهدم الكعبة قد حفظ لقريش ما كان الله تعالى قد أعطاهم إياه ووفقهم له ، وهو الإيلاف والإتلاف الذي يعني الإيناس ، فما هو ذلك الإيناس ؟
يجيب الحق عز وجل : ( إِلافهم رحلة الشتاء والصيف ) ، وفي هذه الألفة التي تلطّف الله تعالى بها على قريش وحفظها لهم لها سمتان وجانبان :
1/ الجانب المادّي المتمثّل في الرحلة التجارية التي كانت قريش قد اعتادت عليها ، بذهابها لليمن في فصل الشتاء ، وللشام في فصل الصيف ، فيأخذون أحسن ما في اليمن وأحسن ما في الشام ليبيعوه في موسم الحج وزيارة البيت الحرام ، ليدر عليهم بالمال ، وبذلك يتحقق الرفاه المادّي .
2/ الجانب النفسي ، الذي نستفيده من وصف الرحلة بـ ( رحلة الشتاء والصيف ) ، فهناك جانب نفسي في تلك الرحلة من خلال اختيار موسم الشتاء للذهاب إلى المناطق الدافئة وفي الصيف للمناطق الفاترة .
ففي هذه الآية إنباء عن أسباب الألطاف الإلهية من خلال التذكير بالواقع المعاش على نحو الإجمال ، إذن ( فليعبدوا ربّ هذا البيت ) ، وهي الغاية من الخلق يقول تعالى : ( وما خلقنا الإنس والجن إلا ليعبدون ) ، وللوصول إلى إقناع المخلوقين بالعبادة ذكّرهم ونسب البيت إليه تعالى ، فلازالت الذاكرة غير خالية من قصة أصحاب الفيل وما جرى عليهم بسبب تعدّيهم على البيت الحرام .
الأمن الحضاري

من أهم الشروط التي ينبغي أن تتوافر في الحضارة التي تطمح إلى تقدّم الإنسان ، لابد أن تجيب على سؤالين مهمين ، يمثلان عوامل الاستقرار الإنساني والأساس الأولي لانطلاقة الإنسان هما :
1/ هل حققت الأمن الغذائي للإنسان ؟
2/ هل حققت الأمن النفسي إليه ؟
وهذان الجانبان هما اللذان أحرجا كل حضارة ( غير الإلهية ) تدّعي أن بيدها خلاص العالم ، والقدرة على إخراجه من مشاكله ، فهل حققت ذينك المهمتين أم لا ؟ ، وها نحن نجد الحضارة الغربية التي تدّعي ذلك عاجزة على الإجابة عليهما ، بل تأثيرها على النقيض من ذلك ، فقد ساهمت في تباعد العوالم عن بعضها ليزداد الفقير فقراً ، ويزداد الغني غناً ، وذلك من خلال سياسة البنك الدولي في إدارة الشؤون الاقتصادية الدولية ، فالنتيجة تفاقم المجاعات ، وكذا في الجانب النفسي ، فرغم ادعاءات الأمم المتحدة بأنها تحفظ أمن العالم وتنقذه من الحروب ، إلا أن الحروب تطحن الشعوب وهي على مرءاً ومسمع ، فلا تتدخل إلا حينما توجد المصلحة !
فإن الناس تعبد الله عز وجل لأنه هو ( الذي أطعمهم من جوع وءامنهم من خوف ) ، حقق الأمن الغذائي ، وضمن لكل مخلوق رزقه وغذاءه ، وكذلك حقق الأمن النفسي وضمن لكل من يخاف الله عدم الخوف ( فمن خاف الله أخاف الله منه كل شيء ، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء ) ، كما في الحديث .
وأما ما نراه من عدم التوازن وعدم الأمن فبما كسبت أيدي الناس ، ولو اتبعوا الله ورسوله لرزقهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، يقول الإمام الصادق (ع) : ( إن الناس ما افتقروا وما احتاجوا ولا جاعوا ولا عروا إلا بذنوب الأغنياء ، و حقيق على الله تعالى أن يمنع رحمته ممن منع حق الله في ماله ) .
بصائر للحياة

1/ إن الله تعالى يرينا ألطافه الإلهية لنستوعب قدرته ، ولنعبده حق عبادته .
2/ وتلك العبادة لا بد أن تكون عبادة واعية ندرك أسبابها وأهدافها ، وقد أكدت الأحاديث أن عبادة العارف أفضل من عبادة الجاهل .
3/ إن من شروط الحضارة هي أن تضمن للإنسان الأمن المادّي والأمن النفسي ، فهذا ميزان مهم يجب أن نقيس به أي حضارة تدّعي إسعاد الإنسان ، ولو كانت تلك حضارتنا التي ننسبها للإسلام .
4/ إن الله عز وجل خلق الخلق وضمن لهم الأمن المادي والنفسي ، بأن يرزق كل إنسان ، أو عن طريق التشريعات الإلهية التي جعلت في أموال الأغنياء حق للسائل والمحروم ، وحرّمت الاعتداء على الآخرين ، ولكن الإنسان بسوء تدبيره أشاع الخوف والجوع .
5/ إن المجهود الذي أداه الإنسان بنجاح في حياته ليؤمن لنفسه السعادة ، يرجع في الأساس لله رب العالمين ، لأنه وفقه لذلك وهيئ له الظروف وذلل له الصعاب ، فحق عليه أن يعبده .

من مؤلفاتنا