نحو فقه يستوعب الحياة

لقد مرّ الاشتغال بالمعارف الإسلامية، وهي معارف القرآن الكريم والنبي العظيم (ص) وأهل بيته الأطهار(ع)، بمراحل عديدة من التطوّر، ذلك الاشتغال الذي بدأ بعد عصر الغيبة باعتبار أن الكلام مخصوص بالاشتغال بالمعارف عبر الاجتهاد لتحصيل الأحكام والمعرفة الدينية من أدلتها المعتبرة، من دون وجود المعصوم بين ظهراني الأمة حاضراً يباشر ما تحتاجه، فعصر الغيبة هو البداية في اعتماد العلماء على ماتوارثوه من العلم من معادنه الأصيلة، النبي (ص) وأهل بيته الأطهار (ع)، فلم يكن جامداً على حاله منذ تلك العصور، وإنما قد مرّ بمراحل عديدة، عبّرت عن مدى اهتمام العلماء بتحصيل العلم وصياغته وبلورته ونشره. .

الفقه وهو (العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية)[1] كما هو في الاصطلاح[2]، هو جزء من المعارف الإسلامية التي جاءت لتصوغ شخصية الإنسان وتنظّم معتقداته وقوانينه على المستوى الفردي والاجتماعي ضمن كافة التسميات الحديثة، متجهة تلك الصياغة نحو تثبيت محورية الحق في الخلق، عبر تجليات متعددة في كافة الأحكام، وتلك التجليات هي عبارة عن أقسام الفقه في عباداته ومعاملاته المختلفة.

فلم تكن كلمة الفقه محصورة في علم الأحكام الشرعية في الخطاب القرآني أو في الروايات الشريفة الصادرة عن النبي (ص) وأهل بيته المعصومين (ع)، إلا أن يشار إلى تلك الإرادة بقيد مذكور أو لدلالة سياقية أو حالية تشير إلى أن المراد من لفظ الفقه في هذه الرواية أو تلك، هو علم الفقه بالمصطلح الحديث، وكمثال على ذلك ما جاء "عن الأصبغ بن نباته قال: سمعت أمير المؤمنين (ع) يقول على المنبر: يا معشر التجار الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر، والله للربا في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا شوبوا إيمانكم بالصدق، التاجر فاجر والفاجر في النار إلا من أخذ الحق وأعطى الحق"[3]. ففي هذه الرواية يشير أمير المؤمنين (ع) إلى أهمية الفقه بمعنى أهمية معرفة الأحكام قبل الولوج في ميدان التجارة، وبقرينة ذكر السبب وهو خوف الوقوع في الربا الحرام، عرفنا أن كلمة الفقه هنا هي ما تصالح عليها الفقهاء في ميدان الاشتغال بالأحكام الشرعية.

وغير ذلك قد جاءت كلمة الفقه في القرآن الكريم والروايات الشريفة بمعناها الأشمل، وهو "العلم بالشيء والفهمُ له"[4] كما في قول الله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)[5]، فتصريف الآيات المختلفة في الكون وفي حركة المجتمع إنما يهتدي بها الذي يفقهون فحواها، وقد تأتي بمعنى فهم الدين وتعاليمه كما في قول الله عز وجل: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[6] ومثله في الحديث ما ورد عن أبي عبد الله (ع) قال: قال أمير المؤمنين (ع): "ألا أخبركم بالفقيه حق الفقيه؟ من لم يقنِّط الناس من رحمة الله ولم يؤمِّنهم من عذاب الله ولم يرخِّص لهم معاصي الله ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره، ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفكر"[7]. وتأتي أيضاً كلمة الفقيه في الروايات بمعنى من يعرف الأحكام الشرعية أو يعرف بعض الأحاديث الواردة عن أهل البيت (ع).

إلا أن كل ما ورد في الشريعة من مواصفات وحيثيات تكلمت عن الفقه بذلك المعنى العام، فهي تشمل الفقه بالمعنى المصطلح، لأنه أوسع من العلم والعلم داخل فيه وهو أحد علاماته كما قال أبو الحسن الرضا (ع) "من علامات الفقه: الحلم والعلم والصمت.."[8] ولهذا يمكننا الاستفادة من كافة الروايات التي جاءت لتصف الفقه والفقهاء في مواصفاتهما بالمصطلح الحديث، بل إن مضامين الروايات ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار في رسالة الفقه والفقهاء، لكي لا تكون معزولة عن رسالة الدين ومقاصده، ولا يخفى أن هنالك بعض الروايات من استعملت الفقه والفقيه كما هو متداول اليوم، في شأن من يصدر الفتوى ويعلم الناس الأحكام، ويتضح ذلك من سؤال الإمام الصادق عليه السلام لأبي حنيفة: "أنت فقيه العراق؟ قال نعم، قال: فيم تفتيهم؟.."، وفي ترجمة النجاشي لأبان بن تغلب: "قال أبو جعفر عليه السلام: اجلس في المسجد وافت الناس فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك"[9].

الفقه بين الإطار والمحتوى

إن مأساة الأمم السابقة هي انتقالهم من الاهتمام بالمضامين والحكمة من الأحكام ورسالة التشريع ومقاصده إلى صورة التشريع وشكلية الأحكام والاهتمام بالحروف دون المعاني، واهتمامهم بالأطر دون المحتوى، بل يحدثنا القرآن عن "المشركين في مكة كيف تمرّدوا على رسالة النبي (ص)، ثم راحوا يعمرون مساجد الله، ويسقون الحاج، واعتبروا ذلك مثل الإيمان والجهاد، فردهم القرآن وقال الله سبحانه عنهم: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)[10].

وكذلك كانت اليهود، حينما اعترضوا على النبي (ص) تغيير القبلة فجاءت الآية الكريمة: (وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[11]، ثم ذكر السياق القرآني في سورة البقرة موارد مما أحله الله (وحرمه اليهود على أنفسهم) وندد باتباع الأنداد من دون الله ثم قال سبحانه: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[12].

ترى كيف أن استقبال هؤلاء لقبلتهم لم يسمه الذكر صلاة لأنها لم تكن ذات صلة حقيقية بالله سبحانه، وإنما كان عملاً ظاهراً بعيداً عن سائر الواجبات التي تشكل بمجموعها روح الشريعة الغراء"[13].

إن لمحتوى الأحكام وحكمتها أهمية بالغة، فلا بد من أخذها في الاعتبار من قبل المشرّع ومن قبل مطبّق التشريع، وإلا فإنها ستنفصل عن روح الدين، فلا تؤدّي فائدتها، فلا يصيب المصلي من صلاته إلا التعب، ولا يأخذ الصائم من صيامه إلا الجوع والعطش، بل تتحول إلى معول هدم لدين الإنسان، ولهذا جاءت الروايات لتبيّن فضل عبادة العالم والفقيه على العابد الجاهل، كما جاء عن الرضا (ع) عن آبائه عن أمير المؤمنين (ع) قال: "فقيه واحد أشد على إبليس من الف عابد"[14]. وعن أبي عبد الله (ع) قال: "ركعة يصليها الفقيه أفضل من سبعين ألف ركعة يصليها العابد"[15].

وقد عرفنا منهج القرآن الكريم بأنه لا يذكر حكماً شرعياً إلا ويذكر بإزائه حكمة ذلك التشريع وسنة ذلك التشريع، ليفقه الناس مراد الله سبحانه ويعلموا حكمته ورسالته، فآيات تشريع الصيام يشفعها بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[16]، والزكاة والصدقة (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا)[17] وعن الصلاة (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ)[18]، وهذا ما أشارت إليه سيدتنا الزهراء (ع) في خطبتها، حيث قالت: (كتاب الله بينة بصائره، وآي منكشفة سرائره.. إلى أن قالت: ففرض الإيمان تطهيراً من الشرك، والصلاة تنزيهاً عن الكبر، والزكاة زيادة في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحج تسنية للدين، والعدل تسكيناً للقلوب..)[19].

فالفقه بهذه الصورة سيكون حياة للقلب والنفس والروح والبدن، على مستوى الفرد والجماعة، وبهذا أنزل الله تعالى أحكامه وشرع شرائعه، ليعيش الناس حياة طيبة، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)[20].

ويتفرع من هذا الموضوع تأثير الفقه على المواقف الفكرية والسياسية، وتأثيره على تقوى الإنسان وورعه وخشيته من الله تعالى محققاً الاستقامة في سبيل الله تعالى، فعن الصدوق فيما جاء في وصايا النبي لعلي: "يا علي لا خير في القول إلا مع العمل.. ولا في الفقه إلا مع الورع.."[21]، و"عن بشير الدهان قال: قال أبو عبد الله (ع): لا خير فيمن لا يتفقه من أصحابنا، يا بشير إن الرجل منهم إذا لم يستغن بفقهه احتاج إليهم فإذا احتاج إليهم أدخلوه في باب ضلالتهم وهو لا يعلم"[22].

ولهذا نشير إلى ضرورة النية الخالصة في الأعمال، وهي قصد القربة والإخلاص لله رب العالمين بأداء العمل العبادي، بل لأي أي عمل يمتثله الإنسان، كما قال تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ)[23] وقول الله عز وجل: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[24]، وأكّدت الروايات على أهمية النية وقواميتها للعمل، كما عن النبي (ص): (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى)[25]، وعن جعفر بن محمد صلوات الله عليه أنه قال: "صوم شهر رمضان فرض في كل عام، وأدنى ما يتم به الفرض صومه العزيمة من قلب المؤمن على صومه بنية صادقة، وترك الأكل والشرب والنكاح في نهاره كله، وأن يحفظ في صومه جميع جوارحه كلها من محارم الله ربّه، متقربّاً بذلك كله إليه، فإذا فعل ذلك كان مؤدّياً لفرضه"[26].

الفقه بين الثوابت والمتغيرات

من أهم الأصول في التفكير الفقهي هو أصل ثبات الأحكام من حيث حليتها وحرمتها، فالتشريعات إنما تقوم على سنن إلهية ثابتة لا يؤثر فيها الزمان أو المكان كما قال تعالى: (سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً)[27] وقوله عز وجل: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)[28]. وكما جاء في الحديث (حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة لا يكون غيره، ولا يجيء غيره)[29].

إلا أن الزمان متغيّر ومتحوّل، وعليه فإن احتياجات الإنسان لأحكام وتشريعات تجيب على التحولات الطارئة يعد من أهم المهام للفقه الإسلامي، وهذا لا يعني أن الأحكام الإلهية متغيرة وفقاً لتغيّر الزمان، وإنما هي ملبية للمتطلبات المتغيرة للإنسان، مهما تغيّرت حياته، فهنالك عدة عوامل تؤثر في الجانب المتغير للإنسان، عدها آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي (حفظه الله) في كتاب التشريع الإسلامي، في الجزء الثاني منه، نلخصها بالتالي:

التقدّم العلمي: وبالذات في ما يتصل في عمق وسعة العلاقات الاقتصادية بين أبناء العالم، وتطور الحاجات المتبادلة، وتزايد الأخطار الناشئة من الصناعة الحديثة مما أوجب قوانين جديدة، وأدى إلى تبدلات في العادات والأعراف، وبعض مقاييس الجمال والذوق..

العرف: فقد كان العرف العام يعتبر بعض الأفعال سيئة أو غير جيدة لبعض الملابسات الخارجية العالقة بها، أصبحت الآن بسبب تبدل الظروف خلاف ما كانت عليه في أعراف الناس، لذلك فهي تحتاج إلى أحكام تجيب على احتياجاتها..

المصالح العليا: من أهم ما يتغيّر مع الزمان، المصالح العليا للأمة، الناتجة من طبيعة الحياة الحديثة والتحديات الحضارية القاسية فيها، كأن يداهم الأمة خطر في أي جانب من الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية، مما يتطلب تعبئة عامة، وهذه التعبئة تحتاج إلى تشريعات تختلف عن التشريعات المرعية في الظروف العادية.

الحالات الطارئة: فعندما تواجه الأمة أو الفرد حالات طارئة فإن التكليف يتغيّر تبعاً له، وهي ثلاث درجات: الأولى: حالة الضرورة مثل الخوف على النفس والمال والعرض والنسل. الثانية: حالة الحرج وهي الأخف من الضرورة، ولكنها تسبب مشقة بالغة يتعسّر تحملها. الثالثة: معارضة المصلحة، كما لو تسبب التكليف في خسارة بعض ماله، أو أي مصلحة أخرى رعاها الشرع[30].

ويمكن أن ننظر لمسألة الثابت والمتغير في التشريع الإسلامي من خلال محورين أساسيين، هما:

الأول: خاتمية الدين الإسلامي، كما قال تعالى: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)[31]، فالرسالة الإسلامية هي المهيمنة على سائر الرسالات التي بعثها الله عز وجل، حيث قال: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)[32]، لذلك فإن هذه الحقيقة تستدعي أن تكون الرسالة خالدة ومواكبة لكافة التحولات الحضارية التي تصيب الفرد والمجتمع، وعليها أن تجيب على كافة التساؤلات التي تواجه الإنسان والتحديات والصعوبات المختلفة، من خلال الأحكام والتشريعات.

الثاني: ضرورة حفظ الدين من خلال التطبيق، فإن الله تعالى أنزل الكتاب بالحق والشرائع والأحكام هي مصاديق الحق على هيئة قوانين، ولأن الدين لابد أن يستمر في حياة الناس، وتتعاقب عليه الحكام والعلماء والقادة، الذين يعبرون عن ذلك الحق في الحكم، فمن هنا تنشأ ضرورة أن تكون هنالك ضمانة لاستقامة هؤلاء عبر تشريعاتهم، فلا يأخذون الناس بالأهواء والمصالح الدنيوية وما شابه ذلك، فكان لابد من أحكام متغيرة متوافقة مع سلطة الحق، كما قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ)[33].

ومن هنا نؤكد على أن أحكام المتغيرات الزمانية أو المكانية أو الظرفية لابد أن تؤسس على هدى السماء ولابد أن تسير على طريق الثوابت الإلهية، فتحقيق العدالة من الثوابت، وتحقيق كرامة الإنسان من الثوابت، فأي حكم وتشريع لابد أن ينطلق من هذه الثوابت المتصلة به، وعليه فإن مطلب الحرية على سبيل المثال، الذي يتغيّر من زمان إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، لابد أن تشرّع حدوده الجديدة وفقاً لقيمة العدالة والكرامة، فمن هنا نعرف أن إطلاق الحرية الشخصية دون قيد، سيناقض قيمة العدالة بالنسبة للآخرين، لأنه يعد تعدّياً على حقوقهم، وسيناقض قيمة الكرامة، لأن الله كرّم بني آدم فلا يريد له أن يذل نفسه أو يحدّ من حياته.

فالثوابت هي المقاييس، التي تقاس عليها المتغيرات، والمتغيرات هي متطلبات الإنسان واحتياجاته التي ينبغي معرفتها والإجابة عليها، كما ورد عن الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه): "وأما الحوادث الواقعة فارجوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم"[34] فإن الفقهاء هم الذين يجيبون على الحوادث الواقعة والمتغيرة من خلال الأصول الحديثية، لأن الأصل يتفرّع منه الكثير من الفروع كما جاء عن الرضا (ع): (علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع)[35].

وفي حديث مهم في هذا الصدد للإمام علي بن موسى الرضا (ع) يقول فيه: ".. ألا إن الفقيه من أفاض على الناس خيره وأنقذهم من أعدائهم ووفّر عليهم نعم جنان الله وحصّل لهم رضوان الله تعالى، ويقال للفقيه: ـ يوم القيامةـ يا أيها الكافل لأيتام آل محمد، الهادي لضعفاء محبيهم ومواليهم قف حتى تشفع لمن أخذ عنك، أو تعلّم منك.."[36]، فإن من المهام الأساسية التي يضطلع بها الفقيه هي تعريف الناس بأعدائهم، والأعداء في كل زمان يختلفون، وأساليبهم تختلف، وهذا يقودنا إلى ضرورة أن يكون الفقيه عارفاً بالمتغيرات، أي منفتحاً على الواقع وعلى تحديات الأمةّ، وعارفاً بهمومها الأساسية وخبيراً بالسبل التي تقودها إلى الخلاص من محنها، فإن (الفقهاء قادة)[37] كما يقول الرسول الأعظم (ص)، وتأسيساً على ذلك فإن حسابات الأعلمية والمعرفة الفقهية لتشخيص الفقهاء لا تقتصر على جانب الثوابت بل إن لمعرفة المتغيرات مدخلية أساسية فيها.

فقه يستوعب الحياة

ويترشح مما ذكرناه أن الدين شامل لكافة الجوانب الحياتية للإنسان تحت مسمياتها الحديثة، فقد كانت متطلبات الأمة في العبادات والمعاملات بمسميات المراحل الخاصة بها، فتطورت المعاملات وأصبحت بمسميات مختلفة وفيها من التعقيدات والتفريعات العديدة، فالفقه الإسلامي له أحكامه في كل ذلك، (حتى أرش الخدش)[38] وفي كل ما يقوّم حياة الإنسان ويهديه ويعينه على تسخير الطبيعة من أجل التقدّم، وهكذا كانت بعثة الرسل والأنبياء لتحقيق الشهادة على العصر في كافة الجوانب، يقول تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)[39]، وهكذا اختلفت كتب الفقه وموسوعاته باختلاف حاجات الإنسان للمسائل المختلفة والأبواب المتنوعة، فتفرعت من أبواب التجارة تشريعات البنوك والتبادل الاقتصادي والاستثمار المركّب والمعقد، وهكذا في الحقل السياسي والحقوقي، والاجتماعي في الأسرة والأحوال الشخصية وغيرها.

ومن أبرز ما صدر في ميدان الاستيعاب لحقول حديثة متعددة في الفقه الإسلامي هي موسوعة الفقه الاستدلالية للإمام السيد محمد الشيرازي (قدس سره)، المكونة من 150 جزءاً، احتوت على جميع أبواب الفقه المتعارفة من الاجتهاد إلى الديات، ثم أضاف تفريعات حديثة مواكبة لحاجة الأمة في مجالاتها المختلفة مثل السياسة، والدولة الإسلامية، والاقتصاد، والاجتماع، والإدارة، والقانون، والحقوق، والبيئة، والمرور، والعولمة، والإعلام، والحريات، والمستقبل، وعلم النفس، والسلام.

فالفقه الإسلامي ليس مبتوراً عن مقاصد الشريعة وروح الدين، وليس مجرد أحكام صورية قشرية لا معنى لها، وإنما هي أحكام لها رسالة في إقامة الحياة الطيبة في الدنيا، والنعيم الأبدي في الآخرة، تحققها من خلال الامتثال لأوامر الله تعالى وأوامر نبيه (ص) وامتداده الرباني أهل بيته الأطهار (ع)، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)[40]، وقال عز وجل: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)[41].

* نشر في مجلة فقه الحياة التخصصية الفصلية، العدد الأول 1429هـ.(افتتاحية المجلة).

[1] / العاملي، الحسن بن زين الدين ، معالم الدين وملاذ المجتهدين، ص 26 مؤسسة النشر الإسلامي، قم ، ط9

[2] / مع بعض الاختلافات، فبعض أضاف في التعريف قيد (بالاستدلال) لتخريج علم النبي والملائكة، وبعض أضف كلمة (المكتسب) وما إلى ذلك. انظر ـ دروس في فقه الإمامية ، ج1، للعلامّة عبد الهادي الفضلي.

[3] / النجفي، الشيخ هادي، ، موسوعة أحاديث الشيعة ، ج 8، ص 506، عن الكافي 5/150

[4] / بن منظور، لسان العرب ـ مادة فقه.

[5] / سورة الأنعام/65

[6] / التوبة : 122

[7] / النجفي، الشيخ هادي، موسوعة أحاديث الشيعة ، ، ج 8، ص 509عن الكافي 1/36 ح3

[8] / النجفي، الشيخ هادي، موسوعة أحاديث الشيعة ، ، ج 8، ص 505، عن الكافي 2/83 ح1

[9] / خازم: الشيخ علي، مدخل إلى علم الفقه عند المسلمين الشيعة، ص13

[10] / التوبة : 19و20

[11] / البقرة : 115

[12] / البقرة : 177

[13] / المدرسي، آية الله العظمى السد محمد تقي، التشريع الإسلامي، ج2/ص 78

[14] / النجفي، الشيخ هادي، موسوعة أحاديث الشيعة ج8/513، عن أمالي الطوسي المجلس الثالث عشر 25/366 الرقم 774

[15] / النجفي، الشيخ هادي، موسوعة أحاديث الشيعة ج8/414، عن البحار 2/19ح51

[16]/ البقرة : 183

[17] / التوبة : 103

[18] / العنكبوت: 45

[19] / الشيرازي، السيد حسن، كلمة فاطمة الزهراء (ع)، ص 113، دار العلوم، لبنان، ط1 2000م، عن عوالم النساء، عن الصدوق.

[20] / الأنفال: 24

[21] / النجفي، الشيخ هادي، موسوعة أحاديث الشيعة ج8/507 عن الكافي 2/231/ح4

[22] / النجفي، الشيخ هادي، موسوعة أحاديث الشيعة ج8/412 عن الكافي1/33ح6

[23] / الزمر : 11

[24] / الأنعام : 162

[25] / العاملي: الحر، وسائل الشيعة، ج1،ص48 ح89 (طبعة آل البيت).

[26] / المجلسي، العلامة الشيخ محمد باقر، بحار الأنوار، ج 93، ص294 ح25

[27] / الإسراء : 77

[28] / الفتح : 23

[29] / النجفي: الشيخ هادي، موسوعة أحاديث أهل البيت (ع) ج2، ص 26، عن حريز عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (ع)..

[30] / راجع التشريع الإسلامي، ج2، المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي.

[31] / الأحزاب : 40

[32] / المائدة : 48

[33] / النساء : 105

[34] / العاملي : وسائل الشيعة، ج27، ص140، طبعة آل البيت.

[35] / العاملي الحر: وسائل الشيعة،ج27،ص 62 (طبعة آل البيت).

[36] / المجلسي، العلامة محمد باقر، بحار الأنوار، ج2، ص5.

[37] / المدرسي، آية الله العظمى السيد محمد تقي ، التشريع الإسلامي، ج6، ص 89، عن البحار ج1/201، رواية9

[38] / العاملي: وسائل الشيعة، ج29،ص356 (طبعة آل البيت) في حديث عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع).

[39] / النحل : 89

[40] / الأنفال : 24

[41] / الأعراف : 32

من مؤلفاتنا