الشعائرتنافر أم تكامل

11111لكل جماعة تمتلك ثقافة محددة تميزها عما سواها من الجماعات مظاهر اجتماعية (طقوس/ احتفاليات/شعائر) تنبع من تاريخها المتصل بثقافتها أو تنبع من ثقافتها وتاليا تصبح أعرافا متوارثة.. وهذه الظاهرة الاجتماعية كما تعزز الانتماء والهوية للجماعة فهي مناسبة يتجاوز فيها أفرادها اختلافاتهم ليتلاقوا على ضفاف ما يؤمنون به أو مايعتبرونه جزءا من هويتهم الجامعة. .

وأيضا؛ إن المجتمعات التي تفتقد للرشد تتحول الأفكار ذات الصبغة الإيجابية فيها إلى ظاهرة سلبية، وهكذا نجد فريضة الحج وهي الشعيرة الكبرى التي تعبّر عن وحدة المسلمين فرصة خصبة لذوي النفوس المريضة التي يغيظها أن يعبد الله أن تبث سموها بتكفير المسلمين والمنع من تلاقيهم وتعارفهم.

ومجتمعاتنا ليست بمنأى عن هذا المرض العضال أي الشقاق والتكاثر عبر الانقسام والتنافر عن الالتئام. ومع أن الجميع إنما يصدر في باطنه عن الولاية والمودة وهو إطار جامع لا يبرر بحال الاختلاف السلبي.

وهنا لا نقف سلباً من التنوع وتعدد الأطر فهذا مما هو شأن البشر واختلاف أنظارهم وإنما نعني أن يتحول التنوع مادة سجال وشقاق يمنع من التكامل.

وهكذا نود أن نشير تحديدا للشعائر الحسينية من جهة صيرورتها أحيانا مادة خصبة للتنافر بين فئات المجتمع الواحد في بعض العناوين.

الشعائر الحسينية.. بين الأجيال

تستمد الشعائر الحسينية شرعيتها الاجتماعية من شرعيتها الدينية وتجذرها الاجتماعي تاريخيا بحيث أصبحت معلما للمجتمع الشيعي وعرفا راسخا تتوارثه الأجيال. والتأكيد على الشرعية الدينية إنما للتذكير والتأسيس لحقيقة مفادها..إن (الإحياء) عنوان عام، وقد ذكرت النصوص بعض التفصيلات والتي تشكل التأسيس لـ(المأتم)، وشرعت للبكاء. وعلى مرّ التاريخ أكتسب الإحياء تمظهرات اجتماعية متنوعة تنسجم مع الثقافة والأدوات السائدة. نعم استمر (المأتم) و(البكاء) كعلامة فارقة.

ومن ثمّ الأعراف الاجتماعية في الإحياء هي مطلوبة بما هي محققة للعنوان العام، فهي تفصيل اجتماعي يخلقه وقد يورثه ما دامت الظروف الاجتماعية والثقافية متشابهة أو أن العرف الموروث سيال في الأزمنة والأمكنة لاقترابه من التعبير الإنساني المشترك.

وهنا يتضح أن الشكل والأطر المظهرة للإحياء ـ سوى المنصوص ـ هو متغير اجتماعي.

وقدمنا بما سلف تمهيدا لتقبل الأفكار الجديدة في تمظهر الإحياء، والتي هي محط اختلاف النظر بين الشباب وجيل الآباء.

ويصنف جيل الآباء في الغالب في خانة المحافظين على تراث الآباء، حيث يولون مظاهر الإحياء عناية يكسوها الوقار والمهابة. بينما قد يأخذ بعض المحافظين على جيل الشباب (الأفكار الجديدة) ـ أن بعض ما يأتون به من جديد قد لا يكون لائقا بجلالة الذكرى، أو يشوب إحيائها بعض التصرفات ـ المرافقة للإحياء ـ الفاقدة للرشد أو الحكمة.

ولسنا هنا للمساجلة بين طرفين.. فنحن جميعا في ركبٍ، وإنما نتوقف لاستيضاح الصورة.

قد تشكلت صورة المجتمع في مقطع زمني ـ وقد يخاله البعض أنه مقطع ثابت ـ ليفصح عن مكونات المجتمع ومؤسساته المتعارفة، حيث يتبوأ جيل الآباء غالبا مفاتح المجتمع ومؤسساته. بيد أنه أبدا لا يتوقف الحراك الاجتماعي.. ويوشك الجيل الجديد بالتطلع، بل والأخذ بأسباب المجتمع.

وبينما يرى جيل الآباء أنفسهم مستأمنين على المجتمع سلامته ومصالحه وثقافته، فالجيل الشاب لا يرى ذلك.. وإن كان جيل الآباء يأخذون بأسباب المجتمع فعلا.. لكن الجيل الجديد يجد دائما فسحة فيما تستحدثه تبدلات المجتمع الاقتصادية والثقافية ـ فينفذ بها للتعبير عن وجوده.

وهذه المنافذ والأطر الجديدة التي يطل بها الجيل الشاب تزاحم المؤسسات المتعارفة، وربما يُصار لكل جيل أطره الاجتماعية متجاورين في الزمان والمكان.

وهذا العصر المتسارع يسابق الزمن في المستحدثات العلمية وما يرافقها من تبدلات ثقافية واقتصادية وعلمية.. لن يسمح بتزاحم بين الجديد وغير الجديد بيسر. ولا أظن أن عسر ولادة الجديد محمود العواقب. كما أن إجهاضه ـ لن يفقده الحياة وإن استطاع تشويهه أو إعاقته ـ لا مسوغ له إن لم يكن خطيئة أحيانا.

التطبير سجال لا ينتهي

اختلاف الفقهاء في الفتيا كما هو مألوف في المجتمع العلمي أصبح مستساغا ومألوفا في المجتمع، ومع ذلك نجد أحيانا بعض المسائل تخرج عن هذا الإطار وتصبح مادة للسجال لارتباطها بأمور عامة مختلف فيها في مجتمع ما.

وهكذا يتجدد السجال سنويا في معظم المجتمعات الشيعية آخذا طابعا سلبيا شقاقيا في أحايين كثيرة. ويمكن أن نسوق ملاحظات على عجل:

الأولى؛ التطبير مسألة فقهية مهما اختلفت أنظار الفقهاء فيها بأنها (من الشعائر الحسينية، أو من شعائر الله أو لم تثبت شعاريته ولا استحبابه أو أنه فعل جائز إذا لم يكن فيه ضرر معتد به أم أنه مستحب أم حرام)، وبالتالي ينبغي أن يتسع صدر المجتمع لهذا الاختلاف الفقهي فلا يتحول مادة جدال عقيم. وهنا يأتي دور رجال الدين على تنوع مشاربهم في تثبيت هذه الحقيقة وترشيد سلوك المجتمع في الاختلاف.

الثانية؛ من الحكمة أن يكون ثمة تفاهم لتقليل مساحات الاختلاف في أرض المجتمع ورعاية مصالحه وظروفه لكن ذلك يتطلب جسورا للتواصل وسعة صدر وإعراض عن الحدة.

خصوصا أن الجميع يصدر عن الولاء ولا يبتغي توهينا للمذهب، ويرى أن مسلكه أقرب للصواب في تثبيت المذهب. ومع تعذر التفاهمات لا بد أن نوَطِّن أنفسنا لتقبل الرأي الآخر.

اختلاف الأطر تنوع وسجال

لكل فئة أن تتمظهر في أطر خاصة بها ويكون لها نشاطها وإطلالتها على المجتمع، وبالتنوع يتكامل المجتمع وتُشحذ الهمم بالتنافس.. لكن التنوع في المجتمعات التي يشوب ثقافتها الخلل ونفوس بعض أفرادها بعض المرض يتحول إلى شقاق ضمن تفشي الروح الحزبية التي تتغلب على القيم النبيلة التي تسع الجميع كما تتغلب على المصلحة العامة.

ويبدو إن ما سلف في العنوانين السابقين من إشكالية يبدأ هنا تحديدا حيث يُقاس الصواب والخطأ من خلال المرتئيات الخاصة بكل فئة وبمقدار من ينسجم مع وجوداتها الخاصة التي تتضخم على حساب عامة المجتمع.

إن البعض منا قطاع طريق الخير، ويشيدون السدود، ويشيعون الإحباط وسوء الظن، ويرسخون الفردية والقطيعة. هذا البعض ليس من كوكب آخر بل هو "نحن".

إن كربلاء نقية طاهرة، أينما قلبت النظر لن تجد إلا التسامي والمعاني النبيلة. فلنتأمل بعضا من الصور.

الأولى: تنوع قبائل وعناصر الأنصار انصهر في راية واحدة، لم يلغ ألوانهم، لكن العين لا ترى إلا عنوان النصرة.

الثانية: الحوار التربوي "الإمام والأكبر، والقاسم"، الإرشادي "مع زينب"، الاحتجاجي "مع الأعداء"،..

الثالثة:الصدق والوضوح: إعلام الأصحاب بالمصير، وتخييرهم، ليتحمل الإنسان نتائج أفعاله، فلا مواربة أو تضليل. الرابعة: الحب للآخرين حتى للأعداء، الأخلاقية النبيلة، فقد سقى القوم الماء، تألم من أجلهم الشهيد.

الخامسة: المصلحة العامة، صلاح الدين، ومنفعة العباد ورفع الظلم عنهم، ودفع الفساد.

وهكذا؛ فالصور متعددة، وأعين المؤمنين دائما تلتقطها، وتختزنها في أرشيف الذاكرة، فلا تستحضر معيار تقويمي وقبل ذلك تربوي يضبط السلوك. فأين تكمن المشكلة!.

بدءا؛ نحن نوجه المواعظ للغير، ونخالف وصية الأمير (ع): لأنفسهم متهمون. وثانيا؛ نمتلك هائل من التبرير، لكن من أراد النصفة فليختبر نواياه ولينظر في العواقب ثم ليسبر التبرير. وثالثا؛ نحن نقلب الموازين، فنتعرف على الحق بالرجال، ولا نتعرف على الرجال بالحق، فتخدعنا المظاهر؛ حيث نختزل الدين في العباديات ونتناسى سائر القيم، بل نختزل الدين في اللباس والسبحة.

ـــــ

· عالم دين وإستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلمية، السعودية

من مؤلفاتنا