فاطمة (ع) القدوة الجامعة

DSC07564  فاطمة (ع) القدوة الجامعة

         

هل كانت فاطمة الزهراء (ع) ضرورة مذهبية اصطنعتها ظروف نشوء التشيع في وقت متأخر[1] كما يدعي بعض المستشرقين[2]؟

          أم أنها ضرورة امتداد رسالي على مدى التاريخ تقتضيها الإرادة الإلهية لبسط الهداية للبشر كما هي الرؤية الرسالية للفهم الصحيح لرسالات الله ؟

.

          إن تلك الفرية الواضحة المدعاة لبعض المستشرقين، وإن خلت من أي مضمون أو دليل حيث يكذبها الوجدان وينقضها اتفاق عموم المسلمين على مكانة الزهراء (ع) في الإسلام وفضلها؛ إلا أنها تلقي ضوءً على ما كان يجترحه المستشرقون من جريمة فكرية لتشويه التشيع الذي تثبت حوادثه التاريخية ومنظومته العقائدية امتداده لفجر الرسالات.

          ومن جهة اخرى فهذه الفرية تفتح الباب لتقصي حقيقة رؤيتنا لدور المرأة في التاريخ ممثلة في القدوات النسائية الصالحة وعلى رأسهن سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين.

          ولابد من أجل إيضاح هذا الأمر أن يتقدم الحديث حول أساس بعثة الرسل وحاجة الناس إليهم.

الحاجة للرسل (القدوات) الصالحة:

وإذا أردنا أن نعرف الحاجة للأنبياء والرسل علينا أن نعرف ما هي كانت وظيفتهم الأساسية.

إن المهمة الرئيسية لأنبياء الله عليهم السلام هي: تنشيط الفطرة وإزالة ما ران عليها وتفعيل النظام الداخلي الذي أودعه الله في البشر، يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام (لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِىَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ)[3].

          من أجل ذلك قيض الله سبحانه للبشرية أنبياء وأوصياء على مدى التاريخ واختلاف الأزمنة يهدونهم سبل رشاد النفس ويبصرونهم عوامل السلوك نحو الكمال الإنساني.

قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ )[4].

          فكان الرسل والأنبياء والأوصياء عليهم السلام هم القدوات التي أمر سبحانه عباده باتباعهم وباقتداء هداهم، واقتفاء خطاهم، عبر الأزمان والعصور، لتكتمل الحجة على الخلق أجمعين.

قال تعالى: (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ)[5] .

فالهداية تحتاج لتمثيلٍ إنساني متحرك على الأرض من خلال اتباع هذا المثال تكتمل رحلة الهداية للبشر ذلك ما نسميه القدوة.

الزهراء (ع) الامتداد الرسالي والقدوة الكاملة

          ولقد كانت القدوات النسائية منذ فجر الرسالات حجة قائمة مع كثير من الأنبياء والرسل على جميع البشر ذكوراً وإناثاً، وثابت تاريخي يتجدد بشخوصه بتجدد الرسالة الإلهية الكبرى.

          فلا غرو إن قلنا بأن المرأة شريكة الرسالات الإلهية فـ (حينما أراد الله أن ينقذ بني اسرائيل، أوحى إلى أم موسى أن أرضعيه، فكانت المرأة بداية موسى، وحينما أراد الله أن ينقذ مرة أخرى بني اسرائيل من الانحرافات خلق مريم، وأم مريم - زوجة عمران - التي نذرت ما في بطنها محرراً لله سبحانه وتعالى، وكيف كرّم الله مريم بأن ينزل عليها ربنا رزقها وهي في المحراب)[6].

          ولقد كانت الزهراء عليها السلام الامتداد الرسالي لحركة المرأة في التاريخ، والأنموذج الكامل ليس للمرأة فحسب بل هي كذلك أنموذج متكامل للقدوة الصالحة ، فـ (..في الخبر : ما كمل من النساء إلا أربعة مريم وآسية وفاطمة وخديجة زوجة النبي (ص) في الدنيا والآخرة...)[7].

          وهذا لايعني حصر الصلاح في هذه النساء بل هو حصر للكاملات من الصالحات، فإن اقتران اسم فاطمة (ع) بسيدات النساء يشير إلى حركة تاريخية مستمرة للمرأة نحو الكمال وبلوغها درجات الكمال البشري؛ فالله سبحانه يجتبي من رسله من يشاء، ويصطفي من عباده "الصالحين" من يريد، قال تعالى: (وإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ )[8].

وقال سبحانه في آية التطهير المشمولة فيها فاطمة (ع): (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً )[9].

فـ (عن عمرة قالت : سمعت أم سلمه تقول : نزلت هذه الآية في بيتي : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) .قالت : وفي البيت سبعة جبرائيل وميكائيل ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة وحسن وحسين صلوات الله عليهم ....)[10].

 

فاطمة (ع) معدن الرسالة:

ومن هذه الرواية يتضح أنها - آية التطهير - نزلت في أهل الكساء خاصة الذين عرّفهم سبحانه وتعالى على لسان جبرائيل (ع) فابتدأ بذكر فاطمة عليها السلام في حديث الكساء :

(قال الله عز وجل : يا ملائكتي، ويا سكان سماواتي ! إني ما خلقت سماء مبنية ولا أرضا مدحية ، ولا قمرا منيرا، ولا شمسا مضيئة ولا فلكا يدور ، ولا بحرا يجري ، ولا فلكا يسري إلا في محبة هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء .

فقال الأمين جبرائيل: يا رب! ومن تحت الكساء؟

فقال عزّ وجل : هم أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها...)[11].

          فقد كانت فاطمة (ع) القطب والمحور والإسم الذي دارت حوله "الكنى" وكأنها اشتركت في كل واحد منهم سلام الله عليهم بالضمير العائد إليها "هم فاطمة وأبوها، وبعلها وبنوها"، فابتدأ بها وأسندهم إليها وعرفهم بنسبتهم إليها ، وكما بدأ بها انتهى أيضاً بها صلوات الله وسلامه عليها وعليهم أجمعين.

فاطمة (ع) مريم الكبرى:

          لقد كانت مريم (ع) آية من آيات الطهر والعفة والكمال والتصديق لله ولذلك كان ذكرها في القرآن جلياً فقد أفرد الحق سبحانه لها سورة كاملة وجاء ذكرها 32 مرة في آيات مختلفة ناهيك عن الآيات التي كانت مضمرة فيها، إن هذا الشأن العظيم الذي تحدث عنه القرآن الكريم ما هو إلا نموذج مصغر من النموذج الأكبر وهو فاطمة (ع) فإذا كانت مريم صديقة ففاطمة (ع) هي الصديقة الكبرى، فكل صفة اتصفت بها مريم (ع) ففاطمة(ع) زادت عليها، إلا ما كان من خصوصية لمريم (ع) في ولادة عيسى (ع) و(لقد أقسم النبي مرارا أيمانا مغلظة ، وقال في فاطمة الزهراء سلام الله عليها « والله هي مريم الكبرى » [12].

فاطمة (ع) عصمة الخلق من النار

          إن القدوة الصالحة بما تشرق به من نور وضياء وهدى تعصم الناس من مزالق الهوى، وكلما اشتدت العلقة والإتباع اتسع المدى المؤثر في حياة الفرد والجماعة ، فعن الباقر ( عليه السلام ) أنه قال : (أما إن أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله ) قالوا : يا رسول الله نخاف علينا النفاق قال : فقال : ولم تخافون ذلك ؟ قالوا : إذا كنا عندك فذكرتنا و رغبتنا وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتى كأنا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل يكاد أن نحول عن الحال التي كنا عليها عندك وحتى كأنا لم نكن على شئ؟ أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا؟ فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : كلا إن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا والله لو تدومون على الحالة التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة ومشيتم على الماء)[13].

          فالحديث النبوي يبين الأثر الذي يتركه الاقتداء بالرسل والأصفياء وكيف أن استدامة الاتصال المعنوي والمادي بالقدوة الصالحة تطهر الروح وتجلو البصيرة وتشحذ الهمة لبلوغ درجات الكمال حتى تصل لمراتب متقدمة من العصمة الإكتسابية، وهو مايحقق بعض معنى الاحتجاب والعصمة من النار.

          ولعل هذا هو أحد معاني الفطم من النار الذي ذكره الرسول الأكرم (ص) فقد روي عنه (ص) أنه حينما سأل جبرائيل عليه السلام: (ولم سميت في السماء المنصورة وفي الأرض فاطمة ؟ قال : لأنها تفطم شيعتها من النار وأعداءها عن حبها ، وهي في السماء المنصورة ، وذلك قوله تعالى : ( ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء )[14] .

علم الزهراء (ع) والقدوة الجامعة

          إن للصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (ع) أدواراً متعددة فهي تزهر بأنوار الهداية في كل نواحي الحياة فهي قدوة للإبنة البارة بأبيها إذ أنها أم أبيها وهي قدوة للزوجة الطيبة الطائعة لزوجها، وهي قدوة للأم المربية الرؤوم ، وهكذا فمهما تطرقت لجنبة من جنباتها تكون هي الأنموذج الأكمل فيه، ولعل الجامع لكل ذلك هو عِلمُهَا عليها السلام.

          ونحن نتلو في زيارتها (ع) : (السَّلامُ عَلَيكِ أَيَّتُهَا اْلمُحَدَّثَةُ العَليمَةُ)، وحين نذكر علم فاطمة (ع) فإنما نتحدث عن معدن الرسالة ونور النبوة ومشكاة العلم و(في تفسير فرات عنه -الصادق- (عليه السلام) قال : (كأنها كوكب دري ) فاطمة من نساء العالمين ( يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية ) قال لا يهودية ولا نصرانية ( يكاد زيتها يضيء) يكاد العلم ينبع منها سلام الله عليها )[15].

وبهذا يتضح أن جميع مواقف حياتها نابعة من هذا العلم، أوليست العصمة نوعاً من العلم ؟

          فلنتأمل قوله تعالى: (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)[16].

          يقول السيد الطباطبائي في تفسير هذه الآية: (ظاهر الآية أن الأمر الذي تتحقق به العصمة نوع من العلم يمنع صاحبه عن التلبس بالمعصية والخطأ وبعبارة أخرى علم مانع عن الضلال،..).

ويضيف أيضاً:

          (كما أن سائر الأخلاق كالشجاعة والعفة والسخاء كل منها صورة علمية راسخة موجبة لتحقق آثارها ، مانعة عن التلبس بأضدادها من آثار الجبن والتهور والخمود والشره والبخل والتبذير . والعلم النافع والحكمة البالغة..)[17].

فالنواقص إنما تحدث أيضاً بسبب نقص في العلم وهي كاشفة عن خلل ما في الالتزام بهذا العلم، و يؤيد ذلك قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)[18].

          والفرق بين المعصوم وغيره هو في تأييد الله سبحانه له وتسديده له فينسخ ما يلقي الشيطان من وساوس وظنون، ويثبت الله آياته في قلوب أنبيائه وأوصيائه وأصفيائه، وذلك بسبب ما وصلوا إليه من كمالات ومعرفة إيمانية.

          وليتضح المعنى أكثر نتأمل في قصة يوسف عليه السلام وكيف صرف الله عنه كيد زليخا وأدركته العصمة للنجاة ليس فقط من الفحشاء بل من أي سوء كان يمكن يحدق به في تلك الحادثة، فقد رأى "برهان ربه"، قال تعالى: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)[19].

          يقول سماحة المرجع الديني آية الله العظمى المدرسي في تفسير هذه الآية: (( ويبقى السؤال: ماذا رأى يوسف حتى تجاوز كل ميوله البشرية وامتنع عن ارتكاب الذنب، أو سلوك آخر غير الهرب مثل أن يضربها ليدفعها عن نفسه؟، وبتعبير آخر: ما هو برهان ربه؟.

أولاً: البرهان هو السلطان، ويراد به السبب المفيد لليقين لتسلطه على القلوب كالمعجزة، قال تعالى: (فذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ)[20] .

وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ)[21].

وقال: (أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)[22].

وهو: (الحجة اليقينية التي تجلي الحق ولا تدع ريباً لمرتاب) على حد تعبير تفسير الميزان))[23].

          إذاً حينما نتحدث عن فاطمة وعلمها فإننا نتحدث عن معدن العصمة وأصلها الذي تتفرع منه فروع الطهارة و الإمامة ، فمصدر علمها ينبع من مراقي الوحي والنبوة فينحدر لها سلام الله عليها وكيف لا وهي "المحدَّثة" "العليمة".

خطبة الزهراء (ع) آية علمها الباهرة

          (روى عبد الله بنُ الحسن عليه السلام باسنادِه عن آبائه عليهم السلام أنَّه لَمّا أجْمَعَ أبوبكر عَلى مَنْعِ فاطمةَ عليها السلام فَدَكَ، وبَلَغَها ذلك، لاثَتْ خِمارَها على رأسِها، واشْتَمَلَتْ بِجِلْبابِها، وأَقْبَلَتْ في لُمَةٍ مِنْ حَفَدتِها ونساءِ قَوْمِها، تَطأ ذُيُولَها، ما تَخْرِمُ مِشْيَتُها مِشْيَةَ رَسولِ الله صلى الله عليه وآله، حَتّى دَخَلَتْ عَلى أَبي بَكْر وَهُو في حَشْدٍ مِنَ المهاجِرين والأَنصارِ وَ غَيْرِهِمْ فَنيطَتْ دونَها مُلاءَةٌ، فَجَلَسَتْ، ثُمَّ أَنَّتْ أَنَّةً أَجْهَشَ القومُ لها بِالْبُكاءِ. فَارْتَجَّ الْمَجلِسُ. ثُمَّ أمْهَلَتْ هَنِيَّةً حَتَّى إذا سَكَنَ نَشيجُ القومِ، وهَدَأَتْ فَوْرَتُهُمْ، افْتَتَحَتِ الْكَلامَ بِحَمدِ اللهِ وَالثناءِ عليه والصلاةِ على رسولِ الله، فعادَ القومُ في بُكائِهِمْ، فَلَما أمْسَكُوا عادَتْ فِي كلامِها)[24].

          لقد كانت الخطبة الفدكية للصديقة الزهراء (ع) آية عجيبة من آيات علمها وقدرتها البلاغية (ع)، فهي في الشكل تثبت مقدرتها الخطابية وتأثيرها على الجماهير والقبض والبسط في الخطاب وتنسيقه، مع زيادة اقناع وإمتاع للسامع برغم الحزن والشجى واللوعة التي تعتلج الخطاب، فقد تعددت الأغراض البلاغية في فصول الخطبة وتنوعت تنوعاً يندر أن يجتمع في خطاب واحد ومع كل ذلك يصب مصباً واحداً في تعرية الانحراف والحركة الانقلابية خلاف رسول الله (ص).

          ومن جهة المضمون فقد كانت سلام الله عليها تنطق وحياً منجماً متناغمة معانيه و متراتبة مطالبه وتسطر منظومة متكاملة متسلسلة ومتسقة من المطالب العلمية الدقيقة والمباحث العميقة في العقيدة والتوحيد و الاحتجاج والفقه ومقاصد التشريع و حكمته ، وكذلك تظهر معرفتها بمراكز القوة والتأثير في الأمة، وجماعات المسلمين وتشكيلها السياسي وأدوارها في مرحلة بناء الدولة الإسلامية، وقد وثقت الإنتهاكات التي أحدثت بعد وفاة رسول الله (ص) و أخبرت سلام الله عليها القوم بعلمها بما خامر الأمة من غدر، وهي تدرك حجم التأثير الذي ستحدثه خطبتها فيهم والمدى التاريخي الذي سيأخذه: (ألا وَقَدْ قُلْتُ ما قُلْتُ عَلى مَعْرِفَةٍ مِنّي بِالْخَذْلَةِ الَّتِي خامَرَتْكُمْ، وَالغَدْرَةِ التِي اسْتَشْعَرَتْها قُلُوبُكُمْ، وَلكِنَّها فَيْضَةُ النَّفْسِ، وَنَفْثَةُ الْغَيْظِ، وَخَوَرُ الْقَنا، وَبَثَّةُ الصُّدُورِ، وَتَقْدِمَةُ الْحُجَّةِ).

إن خطبة الزهراء عليها السلام وثيقة علمية ، تاريخة وأدبية مهمة لكل باحث عن الحقيقة وطالب للمعرفة ومريدٍ للحكمة.

          إذاً ففاطمة الزهراء عليها السلام هي القلب في سلسلة الصديقين وهي شمس في منظومة الكواكب فهي الامتداد الرسالي لأنبياء الله وأوصيائه وأصفيائه، وهي معدن الرسالة وخزانة الأسرار الإلهية، وبهذا استحقت أن تكون الأصل الذي تتفرع منه الغصون الطاهرة وكيف لا وهي قدوة الصديقين وابنة خاتم النبيين وزوج أمير المؤمنين وأم الحسن والحسين ومنها انحدرت سلسلة المعصومين.

          إن فضائل الزهراء عليها السلام وكرامتها ليست نجوماً ونياشيين بلا رصيد أو شكلاً بلا مضمون، كما أنها ليست زخرفاً من القول بل هي آيات بينات يصدق بعضها بعضاً.

إن أولويات الإقتداء بالقدوة الجامعة العبور لرحلة الكشف لنتعلم أولاً (عنها) من هي وماهي فاطمة (ع) وكيف هي، ومن ثم نتأهل لرحلة الإقتداء والتعلم (منها) وبين هذه وتلك مسافات بعمر التوفيق.

 

محمد حسن آل إبراهيم

13 /4/2012

 



[1] - فاطمة الزهراء أم أبيها ص 45 ، السيد فاضل الحسيني الميلاني.

[2] - هنري لامنس مستشرق بلجيكي المولد فرنسي الجنسية لبناني الإقامة (الموسوعة العربية الميسرة- الطبعة الثانية 2001)، وكان شديد التعصب ضد الإسلام)(المستشرقون والتحامل على الإسلام (لامنس أنموذجا) لـ د.حميد حسون بجية.

[3] - نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، الخطبة الأولى ص 23.

[4] - سورة النحل : 36

[5] - سورة الأنعام : 90

 

[6] - المرجع المدرسي، الحج هوية الفرد وصياغة الأمة، ص 35

[7] - شجرة طوبى - الشيخ محمد مهدي الحائري - ج 2 - ص 232

[8] - سورة آل عمران : 42

[9] - سورة الأحزاب : 33

[10] - مناقب الإمام أمير المؤمنين (ع) - محمد بن سليمان الكوفي - ج 1 - ص 132

[11] - موسوعة كلمات الإمام الحسين (ع) - لجنة الحديث في معهد باقر العلوم (ع) - ص 76 - 77

[12] - الخصائص الفاطمية - الشيخ محمد باقر الكجوري - ج 1 - ص 249

 

[13] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 - ص 424

[14] - اللمعة البيضاء - التبريزي الأنصاري - ص 114 - 115

[15] - الخصائص الفاطمية - الشيخ محمد باقر الكجوري - ج 1 - ص 247

[16] - سورةالنساء : 113

[17] - تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج 5 - ص 78

[18] - سورة فاطر : 28

[19] - سورة يوسف : 24

[20] - سورة القصص : 32

[21] - سورة النساء : 174

[22] - سورة النمل : 64

[23] - تفسير من هدى القرآن، ج5، ص116

[24] - أعيان الشيعة - السيد محسن الأمين - ج 1 - ص 315

 

من مؤلفاتنا