أنا والقرآن وجدي وجدتي

mulaaأنا والقرآن وجدي وجدتي

لقد كان لجدي وجدتي (وهما أبوا والدتي) فضل كبير في تكوين العلاقة بيني وبين القرآن الكريم، وهذا الفضل بدأ منذ أن كان عمري عشر سنوات..

بدأت القصة بعد أن قررت قراراً غريباً لمن هم في مثل سني، وهو أن أجمع ثيابي وأحطها على ظهري متوجهاً نحو بيت الجد (الملا عبد الكريم)، فهو في نفس القرية التي فيها منزلنا، ولكنه في حي آخر.. كان ذلك في عطلة الصيف..

تخطيت الزقاق تلو الزقاق، وفتحت باب بيت الجد ودخلته، فرميت بكومة الثياب على الأرض.. فتسألني جدتي عن سبب المجيء مع الثياب.. أخبرتها أنني أريد أن أسكن معهم.. غريب!

لقد كان في البيت بالإضافة إلى أخوالي.. جدي وجدتي، وجدي هو الخطيب الحسيني وشاعر أهل البيت (ع) الملا عبد الكريم الغانمي، كفيف البصر منذ أن كان صغيراً.. قيل أن عينيه كانتا جميلتان فحسده أحدهم عندما كانت أمه تزور قرية من القرى..

استقبل الجميع قراري بفرح، وذلك لأنه لا يوجد في البيت أحد من الصغار، وصل الخبر لأمي وأبي، فاستسلما للقرار، لما يشكله ذلك من ارتياح لجدي وجدتي..

ما أود ذكره عن فضل جدتي علي بشأن العلاقة مع القرآن الكريم هو أنني في هذا الحي أصبحت أقرب إلى (صنعة) معلم القرآن الحاج عبد العظيم رحمه الله، فهو يعلم أهل القرية صغاراً وكباراً القرآن الكريم منذ زمن بعيد، يقوم بالتعليم في مزرعته حيث يقبع في طرفها عريش من سعف النخل، فيه مصنع النسيج (الذي تشتهر به قريتنا ـ بني جمرة)، حيث يقوم بالتعليم وهو يمارس النسج في آن واحد..

شجعتني جدتي على ارتياد (المعلّم) وكنت أذهب مع جمع من أقربائي، فكانت جدتي تنظم وقتي بالكامل، وكان برنامجي اليومي كالتالي:

في الصباح الباكر أجلس للصلاة، ثم تعطيني المال لكي أشتري الخبز من الخبّاز المجاور، بينما أنا آتي بالخبز الساخن، هي تعد لي (بيضة بط) كبيرة، وكأس (حليب طازج).. وتلك البيضة تأخذها من مزرعتها التي تربي فيها بعض الدواجن، وتصر عليّ بأن أنهي البيضة المسلوقة كاملة مع الكأس الكبير، ورغيف من الخبز الساخن.. كان إفطاراَ شهياً بالفعل.. ولكنه يأخذ مني جهداً..

بعدها نمارس اللعب مع أطفال الحي، ثم وجبة الغداء، فوقت (المعلّم) حيث نقطع مسافة حي آخر، ثم ندخل مساحة البر خارج القرية ونتخطى كثبان الرمال والهضاب في حرارة الشمس، لنصل إلى مزرعة المعلم عبد العظيم..

عندما أنهي جزءاً من القرآن، تقوم جدتي بعمل (الشربت ـ العصير) لكي نقوم بنقله إلى الحاج عبد العظيم والذين يتعلمون، ليشربونه، كحالة احتفالية بالإنجاز، وكنا ننقله أنا ومجموعة الأولاد الذين معي بمد عصا وسط (الترمس ـ  حافظة العصير) لنتعاون على حمله، كلٌّ من طرف..

وأحياناً تعطيني الجدة العزيزة عدداً من بيض البط لكي أعطيه للمعلّم، بمثابة إكرامية على تعليمه..

ويستمر برنامجي اليومي عصراً بزيارة بيت أحد الأصدقاء الرسامين الذين كانوا معي في المدرسة وفي نفس الفصل، وهو يكبرني سناً، فنمارس فن الرسم معاً، أحببت الرسم كثيراً، وتعلمت من صديقي الإتقان فيه، لكنني توجهت أكثر لرسم الكاريكاتير..

وبعد المغرب أستعد للنوم في الغرفة التي ينام فيها جدي.. ليبدأ يوم جديد بعده، في حرص كبير من الجدة على وقت تعلم القرآن الكريم..

فرحم الله هذه الجدة العطوفة التي شجعتني على التعلّق بالقرآن الكريم ومداومة تعلمه..

أما جدي (الملّا)، فإنه حافظ للقرآن برغم أنه لا يبصر منذ الصغر، وعرف عنه في القرية بقوة الذاكرة، وكان يصحح القراءة لكبار شخصيات القرية ممن عرفوا بالعلم.

جدي الذي كان يقوم على رجليه عندما تدخل والدتي عليه البيت (وهي ابنته)، فيقبل رأسها، تغالبه في ذلك، وتقول له من أنا لكي تقوم لي وتقبل رأسي يا والدي، أنا التي يجب أن يفعل ذلك لك.. فكان يعزوا ذلك إلى أنها أنجبتني، ويقول لها: أنت أم سيد محمود، ويهنئها بي دائماً.. كل ذلك لأنني توجهت لطلب العلوم الدينية، وكان يأنس بالحديث معي.. (طبعاً لم يكن منه ذلك إلا تشجيعاً وحسن ظن، فلم يكن فيّ شيء يستحق منه ذلك)، وقد كان مهتماً باللغة العربية والقرآن وتفسيره، والسيرة بتفاصيلها..

بعد أن انتهت إجازة الصيف استمر بي المقام في بيت الجد، وكنت أتوجه للمدرسة من هناك، ولكن لم تستمر هذه الأيام.. فرجعت إلى بيتنا من جديد..

وفي شهر رمضان المبارك من كل عام، كنت أشارك في تلاوة القرآن في المجلس القرآني الذي يعقد في بيت الجد، وكنت أرتعد عندما أسمع خطوات جدي وهو يهم بالدخول للمجلس، وأحرص على أن لا أخطئ خطأ واحداً.. وكان يردّ عليّ ويصحّح الخطأ وهو بعدُ لم يدخل المجلس.. فمغالبتي لنفسي هذه ساعدتني في الحرص على القراءة الصحيحة أمام الملأ..

جدي رحمه الله لم يكن مستمعاً عادياً للقرآن الكريم، بل كان يتفاعل أشد التفاعل مع آياته، يجلس في المجلس جلسة رسول الله (ص) ويلم رجليه بعباءته، ويعير سمعه وفكره للقرآن..

فعندما تمر آية فيها ذكر العذاب والذنوب، أخذ يحزّن نفسه ويجهش بالبكاء.. وعندما تمر آية فيها الاستعاذة، تعوذ بالله من الشيطان، وعندما تمر آيات التوكل، توكل، وعندما تمر آيات الجنة ونعيمها، سأل الله تعالى المغفرة والجنة، وهكذا.. 

فهو يضحك حيناً على من استدرجهم الله.. ويوبخ الذين اتبعوا المضلين، ويشجع المستقيمين، ويؤمّن على الدعاء، وهكذا كانت لديه تعليقات على الآيات بمختلف أساليبها..

كنت أشعر معه بأن القرآن الكريم، ليس مجرد ألفاظ لابد أن نحسن قراءتها وحسب، بل هو عالم رحب مليء بالحركة، يجعلك تدخل ذلك العالم وتندمج فيه، لتعيش كل التقلبات والتحولات والتجارب التي مر عليها أنبياء الله تعالى..

جزاهما الله خيراً، وأسكنهما فسيح جنته.

محمود الموسوي

1431هـ

من مؤلفاتنا