لقد جرت عادة الفقهاء منذ القَدم في كتبهم الفقهية أن يبدأوا كتاب النذر بتعريفه وذكر أنواعه وشروطه وأحكامه، ولم يتعرّضوا فيها إلى حكم أصل النذر من حيث الإباحة أو الاستحباب أو الكراهة، ولكن بعضهم تناوله في المتفرقات وفي كتب الأسئلة، أو في ملحقات كتب أخرى ككتاب الحج، كما فعل صاحب العروة الوثقى.

ولهذا السبب يغيب عن الناس أصل حكم النذر، وقد التزموا بما ذكرته كتب الفقه من وجوب الوفاء بالنذر إذا انعقد بالشكل الصحيح فيما يصح من أقسامه، سواء كان نذر بر وشكر، أو نذر زجر وردع، أو نذر تبرّع وتطوّع.

ولقد ذهب الفقهاء في حكم أصل النذر إلى أقوال شتّى، ولكلّ منهم دليله ومبناه، ونذكرها بحسب ما تجمّع عندنا من متفرقات البحوث والكتب، ونصيغه بصياغتنا الخاصة، وهو كالتالي:

الرأي الأول: يقول بالكراهة مطلقاً، أي أن النذر أصله مكروه وغير مرغوب، وأن ما في الشريعة من واجبات كافية للإنسان، فلا داعي لأن يوجب الإنسان على نفسه شيئاً زائداً على ذلك.

وقد استدلوا برواية عن الإمام الصادق (ع) جاء فيها (إني لأكره الإيجاب، أن يوجب الرجل على نفسه).

وعلى هذا الرأي يكون النذر مكروهاً، أي أن في تركه مثوبة وليس في فعله عقوبة، ولكن مع ذلك يجب الوفاء به وبشروطه.

الرأي الثاني: يقول بالكراهة العبادية، أي أن الكراهة إذا تعلّقت بالعبادات كأن يصلّي الإنسان في مكان مكروه، فيكون معنى ذلك قلّة الثواب في ذلك العمل، وليس نفي الثواب تماماً.

وقد استدلوا على ذلك بأن الروايات دلّت على أن يكون في النذر نيّة القربة لله تعالى، ولا تكون القربة إلا في طاعة، ولحديث الإمام الصادق (ع) جاء فيه: (ليس النذر بشيء حتى يسمّي شيئاً لله).

الرأي الثالث: أن النذر في أصله طاعة، ولا يتحقّق إلا بالمنذور الراجح شرعاً، ولكن الكراهة المستظهرة من بعض الأخبار، هي من باب الإرشاد، وهي كراهة متعلّقة بأسلوب النذر الذي قد يثقل على الإنسان، فيقصّر عادة في الوفاء به، فيكون بذلك مرتكباً للحرام.

فعلى هذا الرأي سيكون النذر مستحبّاً في نفسه، وعلى الإنسان أن يراعي فيه التزامه به، لكي لا يقع في المحذور.

الرأي الرابع: أن النذر مستحب ومطلوب شرعاً، ولا كراهة متعلقة به، فهناك أحكام متعلقة بصيغة النذر وموضوعه، فما كان من النذر مستوفياً لكافة الشروط الشرعية، ومنها قصد القربة لله أو يكون المنذور مقدوراً للناذر وما شابه ذلك، فإنه حينئذ طاعة مستحبة يُرجى منها الثواب، لأنها تدعو لزجر عن معصية أو تدفع لفعل طاعة.

كما أنه نوع من أنواع الاستعطاف لله تعالى، كما يكون في الأدعية، وكأن الناذر يقول: يا رب، حقّق لي مرادي، وسأتقرب إليك بما لم توجبه عليّ.

ويستدل على ذلك بفعل الأئمة المعصومين (ع) من النذر، ومن نزول الآيات في حقهم، وما جاء من آيات في سياق المدح، والأمر من الله تعالى به، كما في قوله عز وجل:

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا).

(إذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

(فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا).

وهناك بعض التفاصيل مما لا داعي للخوض فيها، ولا يخفى أن لكل رأي جهة يراها، إلا أنه قد يكون الرأي الثالث والرابع أقرب، للأصل القرآني ولسيرة أهل البيت (ع).

والله أعلم.

السيد محمود الموسوي

من مؤلفاتنا