ليلة القدر فرصة تغيير الذات

laylet_alkader_21سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي (دام ظله).

لا شك أنّ معرفة الإنسان لذاته هي مفتاح لمعرفة الحقائق العظمى التي تحيط به. فالإنسان – على صغر حجمه – يمثّل عالماً كبيراً وواسعاً، وهو مكلّف بمعرفة نفسه، كما أنّه مكلّف بمعرفة ربّه. فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من عرف نفسه فقد عرف ربه".

 إن أكبر المشاكل تحدث لدى الإنسان عندما يغترب عن ذاته، رغم أنّ ذاته هي أقرب شيء إليه، ولكنّه مع ذلك لا يوليها اهتماماً. فهو يرى كل شيء ولكنّه ينسى نفسه، كما يقول ربنا عز وجل: )نَسُوا اللَّهَ فَاَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ اُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ( (الحشر/19) وهو ينسى نفسه من خلال انجذابه الى ما حولـه من المظاهر المادية مثل المال والشهوات والسلطة، ولكنّه في المقابل يفقد نفسه.

.

ونحن إذا لم نستفد من الأحاديث التي تلقى في ليالي شهر رمضان وخصوصاً في ليالي القدر، وإذا لم نتـزوّد منها زاداً ينفعنا في يوم المعاد، فإنّنا سنكون خاسرين، لأنّ حالنا سيكون كحال الإنسان الذي يموت عطشاً وهو يقف بمحاذاة نهر عذب زلال.

إنّنا الآن بأمسِّ الحاجة الى التزوّد كما يول جل وعلا: )وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ( (البقرة/197).

فهناك أمامنا رحلة بعيدة متطاولة في أرض جرداء لا ماء فيها ولا كلأ، ونحن في مسيس الحاجة فيها الى التـزوّد. ولا شك أن ليلة القدر هي أعظم الليالي التي من الممكن أن نتـزوّد فيها بالتقوى والعلم والمعرفة لتغيير أنفسنا.

وللأسف؛ فإنّ الغالبية العظمى من الناس يعيشون في حالة غياب عن ذواتهم، وعمّا أودعه الله تعالى فيهم من طاقات ومواهب وقدرات. وسأحاول فيما يلي أن أسلّط الأضواء على هذا الجانب الهام، وذلك من خلال فتح نافذة، فلنحاول أن ننظر عبرها لكي نستطيع أن نستوعب ونذهب في آفاق العلم بعيداً.

ضرورة معرفة الإنسان لقدره

وهذه النافذة التي أريد أن أفتحها أمامك - عزيزي القارئ - لكي تعرف نفسك، وتعرف أنّ الله سبحانه وتعالى قد خلق من هو أعظم من ناحية الضخامة الجسديّة كالفيل والحوت وغيرهما، ولكنّ هذه الحيوانات على ضخامتها وهيبتها سوف تتحوّل في يوم القيامة الى تراب دون أن يكون أمامها حساب أو كتاب، ودون أن تدخل جنّة، أو ترد ناراً.

أمّا الإنسان؛ فحالته تختلف، فهو يأتي الى هذه الدنيا ليعيش مرارتها، ويعاني من الهموم والمشاكل، كما يقول تعالى: )يَآ أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ( (الانشقاق/6)، وكما يقول: )لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ( (البلد/4) ثم بعد ذلك ينـزل في ساحة الموت الذي يبلغ من العسر والصعوبة بحيث أنّ البعض من الناس يعيشون مرارته، وذكراه المؤلمة الى يوم القيامة.

جوانب من عذاب يوم القيامة

وبعد الموت تأتي مرحلة البرزخ، ويقال انّ بعض الناس يعيشون في هذه المرحلة لملايين السنين إمّا في عذاب أو في نعمة، ثم يعيشون خمسين ألف عام يوم القيامة، ثم يخلدون في نار جهنّم - إن كانوا من المسيئين- هذه النار التي لا يستطيع خيال الإنسان أن يتصوّرها، وقد جاء في بعض الروايات أن السلسلة التي يسلك فيها المجرم في جهنّم يبلغ طولها ذراع الملائكة، وهناك روايات أخرى تصرّح بأنّ الحلقة الواحدة لو وضعت على جبال الأرض لذابت من حرارتها.

ولقد قرأتُ في هذا المجال حديثـاً عن قولـه عزّ من قائل: )عَذَاباً صَعَداً( (الجن/17) أنّ العذاب الصعد يعني أنّ في نار جهنّم جبلاً يؤمر الكافر بأن يتسلّقه وهو يرسف في الأغلال، وأنّ هناك تلالاً من العقارب والحيّات والنيران، وعلى الإنسان الكافر أن يصعد هذه التلال، علماً انّ الأوامر لا يمكن تعصى، ويظلّ هذا الكافر يصعد حتّى يستغرق صعوده أربعين سنة لكي يصل الى القمة، وعندما يصل إليها يرمونه الى أسفل الجبل ليصعد من جديد، ويظلّ على هذه الحالة إلى أبد الآبدين!

وبعد فهذا جانب من العذاب في يوم القيامة، ومن الألوان المختلفة منه التي لا يكاد العقل يتصوّرها. وكلّ ذلك يدلّ على انّك -أيها الإنسان- قد خلقت لأمر عظيم، وأنّك ينبغي أن لا تنظر الى نفسك نظرة احتقار واستصغار. فمصيرك أما أن يكون العذاب المقيم، أو النعيم الأبديّ الدائم.

العتق من النار

وعلنيا أن نسأل الله جل شأنه أن يجعلنا من السعداء في ليلة القدر، ومن عتقائه من النار، ومن الفائزين بالجنّة، فنحن في الليلة المذكورة نحلّ ضيوفاً على خالقنا وبارئنا، فلنطلب منه أن يقرّبنا ويكرّمنا. فلكل ضيف قرىً، فنلدعوه تعالـى أن يجعل قرانا الجنّة، والله كريم بالتأكيد، فلعلّـه - بدعوة واحدة - يحث في نفسك تغييراً جذرياً، وانقلابـاً شاملاً. فلنطلب ذلك من الله جل وعلا جميعاً، ولندعُ لأنفسنا ولإخواننا ولكافّة المؤمنين والمؤمنات، بحسن العاقبة والخلاص من النار؛ هذه النار التي وصفتها بعض الروايات بأنّ قعرها بعيد الى درجة أنّ البعض يرمون فيها فيستغرق سقوطهم فيها حتّى يصلوا الى قعرها سبعين خريفاً!

الجنة نعم لا تحصى

ونحن إذا أمعنّا النظر في نعم الله تعالى التي هيّأها للإنسان في الجنّـة مـن زاوية معرفة الإنسان ومدى تكريم الله لـه، وسبب خلقه، فإنّنـا سنكتشف أنّ نعـم الجنة كثيرة لا يحدّها حصر. ومن أهمّ هذه النعـم (الخلود). فالإنسان لا يعتريه في الجنّة الخوف من الفناء بسبب انعدام وجود عوامل الفناء من مثل المرض والمصائب.. كذلك في الجنة نعـم خالدة لا تحصى.

إنّ الإنسان المؤمن سيمتلك في الجنّة استعدادات وطاقات هائلة فهـو يمتلك أرضـاً خاصّة به، وداراً للضيافـة واسعاً يستطيع أن يضيف على مائـدة أهل الجنة كلّهم في يوم واحد.

الإرادة تحدّد مصيرنا

فمن خلال هذه النافذة علينا أن نعرف قيمتنا، فهذه الجنة وتلك النار لا ندخل إحداهما إلاّ بارادتنا، فالله سبحانه وتعالى أعطانا مفتاح الجنّة، كما أعطانا مفتاح النار، ومن السهل على الإنسان – إذا أراد – أن يوقع نفسه في النيران عندما يترك نفسه. فالنار بابها مفتوح للإنسان الكافـر كمـا يقول عـزّ مـن قائـل: )وَلَقَدْ ذَرَأْنَـا لِجَهَنَّمَ كَثِيـراً مِـنَ الْجِـنِّ وَالإِنْـسِ( (الاعراف/179).

ومن هنا يعرف الإنسان قيمته، وهذه القيمة تكمن في ارادته، ومشيئته. فبهما يختار الجنّة بما فيها من نعم أبدية، أو النار بما تمتلئ به من أنواع العذاب. ومن خلال هذه النافذة علينا التعرف إلى أنفسنا، والإنسان إنّما يعرف نفسه عبر نهايتها، وبالمصير الذي ستؤول إليه.

وهنا نصل إلى الموضوع الأساسي؛ وهو الإجابة على التساؤل القائل: ما هو الإنسان؟ فاذا أنت لم تعرف نفسك فإنك سوف تصبح هلوعاً وإذا مسّك الشر جزوعاً، وإذا مسّك الخير منوعاً كما أشار إلى ذلك سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم.

أي أنّ الإنسان يتحوّل إلى كائن بسيط ساذج لا يهتمّ إلا بإشباع غرائزه الجسدية. وهذه الحياة التي يعيشها، فينسى أساساً قضاياه الكبرى ومستقبله البعيد، لأنّه في هذه الحالة سيحجّم نفسه ويصغّرها، أضف الى ذلك أن الشيطان أيضاً يسعى من أجل أن يدفعه إلى ذلك فيلهيه ويجعل تفكيره منصباً على الأمور الجزئية التافهة الهامشيّة التي لا تمتلك أية قيمة.

هذا في حين أنّ الله جل وعلا يريد من الإنسان أن ينظر بعيداً إلى الآفاق، ويصل إلى مستوى الإنسانية، والاختيار بيد الإنسان في الوصول إلى هذه القمة السامقة، أو السقوط في ذلك الحضيض.

بين التفويض والجبر

ولقد ذهب الإنسان في هذا المجال مذهبين متناقضين في الظاهر، ولكنّهما يؤدّيان به إلى استصغار نفسه وتحقيرها؛ المذاهب الأول هو مذهب التفويض الذي يقول إنّ الله تبارك وتعالى ليست له أيّة إرادة على الإنسان، فقد تركه وشأنه، وخلقه عبثاً وسدىً، فلا يجازيه ولا يحاسبه ولا يعاقبه. فالله تعالى عمّا يصفون محايد في معركة الخير والشر، وقد ترك الدنيا تحكمها شريعة الغاب. وهذه هي نظرية التفويض التي تحتقر الإنسان، وتحطّ من شأنه، ذلك لأنّ الإنسان في هذه الحالة سوف لا يجد من يتوكل عليه، أو يلجأ إليه عندما يواجه الضعوط الاجتماعية والثقافية والإعلامية ومشاكل الحياة المختلفة. ومن المعلوم أنّ من لم يتوكّل على الله سبحانه وتعالى فإنّه سرعان ما ينهار.

أمّا النظرية الثانية، فتقول إنّ الإنسان ليس بيده من الأمر شيء، فكلّ شيءٍ مرتبط بالله، فالإنسان لا يقدّر لنفسه. ومن العجيب أنّ بعض المفسّرين يفسّرون القرآن على ضوء هذه النظرية (نظرية الجبر)، ونحن نسأل مثل هؤلاء: إذا كان الإنسان مسلوب الإرادة فلماذا يقرّر ولماذا يشاء ولماذا يسعى ويتحرّك؟

اعتدال وتوازن بين الخير والشر

وهذا الإنسان عندما يفقد الإحساس بتسلّطه على نفسه، وامتلاكـه

لزمامها فإنّه سوف يفقد في الحقيقة كلّ شيء.

وقد أكّدت الروايات على أن هناك ثلاثة وثلاثين ملكاً، ونفس العدو من الشياطين يحيطون بقلب الإنسان، وبينهما إرادة الإنسان. فهناك -اذن- اعتدال وتوازن بين القوّتين، والإرادة تقوم بدور اختيار أحد الجانبين.

فالشيطان يقبل عليك ليبرّر لك الاستسلام والاسترسال والاستمرار في طريق المعاصي، وهو يبرّر لك واقعك، ويوحي لك بأنّه أفضل واقع، فيمنعك من استغلال شهر رمضان المبارك، فتدخل فيه وتخرج منه دون أن تضيف سلوكاً حسناً الى سلوكك، ودون أن تعمد الى تغيير واقعك الفاسد.

إنّ علينا - على الأقل – أن نقلع من ذنب من ذنوبنا، أو نغيّر عادة سيئة من العادات التي ألفناها، ونبدلها بعادة حسنة، ولنحاول في هذا الشهر الكريم أن نزرع في أنفسنا حبّ القرآن، والصلاة، والتبتّل..

صلاة مفروضة

وقد روي في هذا المجال أنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله في السنين العشر الأوائل من نزول الوحي كانوا يقومون الليل تطبيقاً لقولـه تعالى: ]يَآ أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً[ (المزمل/1-4)، فكانوا يقومون الليل، وينهمكون في التعبّد وهم يشعرون أنّ هذه الصلاة مفروضة عليهم. ولصعوبة الصلاة وغلبة النعاس، فقد كانوا رضي الله عنهم يشدّون أنفسهم بالحبال على الاشجار أو جدران بيوتهم لكي لا يسقطوا أرضاً من فرط التعب والنعاس ويظلّون على هذه الحالة حتّى الصباح.

فلنحاول العودة أنفسنا في هذا الشهر الفضيل على أداء صلاة الليل، وقراءة القرآن الكريم، وحبّه، ولنحذر من أن يحلّ علينا شهر رمضان المبارك ثم ينقضي عنّا دون أن يتغيّر شيء من نفوسنا. فالشيطان يسوّل لنا الإستمرار في الواقع الذي نعيش فيه، في حين أنّ على الإنسان أن يتجاوز هذه العقبة، فبمجرّد أن يعترف في داخلك أنه قادر على التغيير، وعلى الوصول الى الكمال، فإنّ هذا الاعتراف سوف يغيّر حياته رأساً على عقب، ويضعه في طريق العروج الى الكمال. فآفاق الكمال لا نهاية لها، وليلة القدر تكرّس هذه الناحية في النفوس، فهي ليلة سلام كمال قال تعالى: ]سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ[، والسلام يعني أنّ الشيطان مغلول في هذه الليلة، وأنّ إرادتك حرّة، وقلبك نظيف طاهر.

برنامج التغيير في ليلة القدر

وفي هذه الليلة يحصل لدى الإنسان توجه إلهيّ وروحاني عليه استغلاله ويقرّر التغيير الشامل فيها. فالله سبحانه وتعالى يمنحنا الفرصة ولكن البعض لا يستغلّها، في حين أن عليهم أن يغتنموها ويرسموا من الآن صورة لمستقبلهم الجديد، ويضعوا برنامجاً لحياتهم الآتية.

والبرنامج هذا موجود في الأدعية؛ وخصوصاً في دعاء أبي حمزة الثماليّ الذي نجد في نهايته برنامجاً متكاملاً لحياة الإنسان. فنحن نقرأ في هذا الدعاء الشريف عبارات من مثل: "اللهم خُصّني منك بخاصة ذكرك ولا تجعل شيئاً مما أتقرّب به في آناء الليل وأطراف النهار رياءً ولا سمعةً ولا شرّاً ولا بطراً، واجعلني لك من الخاشعين، اللهم أعطني السعة في الرزق والأمن في الوطن وقّرة العين في الأهل والمال والولد والمُقام في نعمك عندي والصحة في الجسم والقوة في البدن والسلامة في الدين واستعملني بطاعتك وطاعة رسولك محمد صلى الله عليه وآله أبداً ما استعمرتني...".

وبعد؛ فهذا برنامج حياة، ومجموعة تطلّعات، وهذه هي الحياة والسعادة الحقيقيّتان. فلنضع هذا البرنامج أمامنا، ولنطلب من الله عز وجل بشكل جدّي أن يوفّقنا الى تطبيقه في ليلة القدر. فالله يستجيب لا محالة للدعاء الصادر من قلب مخلص، ونفس لا يشوبها الرياء، وقد ضمن لنا هذه الإجابة في محكم كتابه الكريم عندما قال: ]وَإِذَا سَاَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَاِنِّي قَرِيبٌ اُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِيْ وَلْيُؤْمِنُوا بِي[ (البقرة/186)

وإذا كان هذا الوعد صادراً من الله؛ وهو العادل الصادق الكامل، فانّه سيكون بمثابة بشرى يزفّها الى المؤمنين الصادقين الذين عقدوا العزم على تغيير نفوسهم، ونفّذوه من خلال استغلال المناسبات الروحيّة في تزكية أنفسهم، وتطهيرها من الرواسب السيئة، وخصوصاً في ليلة القدر.

ــــــــــــــــــــــــ

من مؤلفاتنا