مشروع القراءة ورسالة الكتابة.. المخاض والتجربة

 المؤلف: السيد محمود الموسوي  8
عدد الصفحات: 426
 سعر الكتاب: مجاني
بلد النشر: البحرين
تاريخ النشر: 1429
 ملف الكتاب:
لمحة عن الكتاب :

صدر عن دار القارئ في لبنان في شهر رمضان 1429هـ كتاب (تجارب الكتاب من القراءة إلى الكتابة) للكاتب الأستاذ حسن آل حمادة، حيث استكتب فيه 22 كاتباً وكاتبة من دول مختلفة، مثل لبنان والمغرب والسعودية ومصر والبحرين ..ليروون سيرتهم مع القراءة والكتابة، يقع الكتاب في 436 صفحة من القطع الوزيري..

وإليك تجربة السيد محمود الموسوي كما رواها في الكتاب

مشروع القراءة ورسالة الكتابة

المخاض والتجربة

محمود الموسوي

عندما يولد المرء في بيئة قارئة أو ذات حراك ثقافي، فيمكننا تصوّر بداية علاقته بالكتاب قراءة أوكتابة، وهي في الأعم الأغلب ستكون بداية كلاسيكية وروتينية ليس فيها شيئ من الإثارة والغرابة، فهو قد ولد في بيئة قارئة فورث عنها القراءة، والنتيجة المتوقعة لنوع العلاقة أنها ستكون علاقة ألفة وصداقة مع الكتاب، أو لا أقل علاقة جيرة يحسن كل منهما جوار بعض بالتواصل مع بعضهما البعض، ويكون إيدام المائدة بينهما هو الكلمات والحروف وبالتالي المعاني.

أما في بيئة كبيئة عشناها في بلدنا البحرين في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، فالعلاقة مختلفة، وصعبة نوعًا ما، فلم تكن حينها عادة القراءة منتشرة بين الناس، فالنخبة تحتكرها كلها، وذلك لعدّة عوامل، أبرزها تدنّي المستوى الثقافي والتعليمي لدى عامة الناس، بسبب انشغالهم بالقضايا المعيشية الملحّة، ومن العوامل المهمّة وقت تفتحنا على الحياة خصوصًا، هي الحالة الأمنية في البلاد التي كانت غير مشجِّعة، بل خطرة على كل من يحمل في يديه كتابًا، لأنه سيترجم من قبل الجهات الأمنية إلى فعل سياسيٍّ أو انتماء حزبيٍّ أو ما شابه ذلك..

فلم نكن نألف مشاهدة الكتب في حياتنا اليومية، وهكذا سائر أقراننا، فأي شخص ستكون لديه علاقة جيدة بالقراءة، بكل تأكيد سيكون له قصّة غير اعتيادية ليدخل عالم الاستثناء.

تكونت لديَّ علاقة أعدُّها جيدة مع الكتاب بسببين، عبّرا عن مرحلتين، هما:

المرحلة الأولى:

مرحلة البراءة في القراءة في مطلع الثمانينيات، وكنت حينها ابن الثامنة والتاسعة والعاشرة من العمر، وهذه المرحلة أصفها بالبراءة، لأنها كوّنت العلاقة الأولى لديَّ مع القراءة غير المدرسية الجامدة، فتكونت لديَّ علاقة مع الحروف والكلمات الحرّة والطلقة، فعرفت حينها ما الذي يمكن أن تصنعه الكلمات من عوالم من المعاني، وما تفيضه من الشعور، وما تكشفه من آفاق، إذا ما تم ترتيبها وتصفيفها بأشكال مختلفة.

هذه المرحلة كان سببها عمّي الذي كان يعمل في مدينة المنامة، فيجلب لنا منها المجلات التي لم تكن تباع في قريتنا، بل لم تكن تباع في كافة القرى حينها، فكنا أنا ومن معي في البيت حيث كان يسكن عمي معنا في بيت العائلة الكبير، نشتاق لمجيئه من العمل، فنتلاقف تلك المجلات، فنعكف على قراءتها.

المرحلة الثانية:

مرحلة الانفتاح على النادي الثقافي والرياضي في قريتنا، حيث كانت هناك ساحة العمل الثقافيّ والسياسيّ ومحل التجاذبات بين التيارات المختلفة، فكان الشيوعيون، والبعثيون، والرساليون الإسلاميون، كلٌّ يعمل على كسب الناس عبر الفكرة ومن خلال الكتاب وبعضهم من خلال مؤثرات أخرى، ولكوني ذا علاقة جيدة بالقراءة، فإن أسهل مدخل يمكنهم أن يدخلوا لي منه هو الكتاب، وبالفعل حاول الجميع ذلك.. إلاَّ أن التيار الإسلامي هو من جذبني، وكان كتاب (مباحثات مع الشيوعيين) للإمام الشيرازي K مؤثّرًا عليَّ في تلك الفترة.. وهو أول كتاب قرأته كاملاً، والسبب في ذلك هو الأسلوب المشوِّق للمؤلّف، والسبب الآخر هو الحاجة للموضوع ذاته في ساحة التجاذبات وقتذاك..

أما عن طريقة حصولي على الكتاب، فهو بفضل المكتبات المنزلية الصغيرة، فكنّا نجتمع في بيت أحد الإخوة، وكان ممن لديهم مكتبة منزلية فيها مجموعة من الكتب والكتيبات، وخلال وجودنا لفترات طويلة في ذلك البيت، نأخذ بين فترة وأخرى بعضها ونقوم بالقراءة، ومن هنا يمكن القول أن هذا المكان كان له الأثر في توطيد العلاقة مع القراءة.

بعد ذينك المرحلتين، واصلت مشوار القراءة وأصبح الكتاب صديقًا أبحث عنه في كل مكان، ففي المدرسة الإعدادية (المتوسطة) كنت مداومًا على ارتياد مكتبة المدرسة، وبعدها انفتحت على المكتبة العامّة لوزارة التربية والتعليم، التي كان أحد فروعها في منطقة تبعد عنّا بضع (بضعة) كيلومترات، وهي (مكتبة جد حفص العامّة)، وبدأت في اقتناء بعض الكتب في البيت، حيث كان ذلك مستغربًا مِن بعض مَن حولي، وفي المرحلة الثانوية أصبح التقدّم ظاهرًا في العلاقة مع الكتاب؛ لأن المدرسة كانت في الجزء الشرقي من البحرين، وهي بعد المنامة مباشرة، (مدرسة الحورة الثانوية) ومدرسة أحمد العمران لاحقًا، فاغتنمت فرصة تواجدنا قرب المنامة لشراء الكتب من المكتبات هناك، وكانت خطّتي في فترات كثيرة كالتالي:

أذَّخر مصروفي اليومي كاملاً، حتى يتكوّن لديَّ آخر الأسبوع مبلغًا يمكنني أن أشتري به كتاباً، وفي آخر يوم من الأسبوع لا أركب حافلة المدرسة التي تقلنا إلى القرية، بل أذهب مشيًا على الأقدام إلى المنامة لأمر على المكتبات وأشتريَ كتابًا أو كتابين حسب المبلغ المتوفّر لديَّ، فأنتقل بعد ذلك إلى محطة المنامة للحافلات متّجهًا نحو قريتنا. وكوّنت حينها مكتبة خاصّة من مجموعة كتب كانت لي علاقة وثيقة بها.. لازلت أحتفظ بها، حيث ترجعني رؤيتها إلى ذلك الزمن.

أخذَت القراءة هاجسًا أكبر من اهتمامي، وحيث إن مكتبة المدرسة الثانوية لم يكن بها كتبٌ تستهويني حينها، عمدت إلى فكرة تأسيس مكتبة سرِّية متنقّلة في الفصل، ومفاد الفكرة هو أنني أجلب معي كل يوم عددًا من الكتيبات الصغيرة، لنقرأها في أوقات الفراغ في المدرسة، بل  أحياناً في أوقات بعض الحصص غير المرغوب فيها.. وكان لديَّ مجموعة من الرواد لهذه المكتبة..

لقد تعدّدت موضوعات القراءة ومجالاتها، إلاَّ أن الموضوعات الدينية المقارنة، والموضوعات الاجتماعية كان لها النصيب الأوفر، بسبب تعدُّد التوجهات والتجاذبات والحوارات حينها، وما يقتضيه ذلك من الاختلاط بالناس وتكوين العلاقات معهم في البعد الاجتماعي، ولكن بعد مرور أعوام عدّة، وخصوصًا بعد الانتهاء من المرحلة الثانوية، بدأت المطالعات تتنوّع أكثر، والانفتاح يتوسّع مداه، فلم أشعر يومًا بحساسية تجاه مؤلّف ما أو كتاب ما، كما كان عند الكثير من أبناء جيلي، فكان المناط والمحور هو معرفة الأفكار والاستفادة من العلوم بشكل عام، ولكن لا بُدَّ لمرحلة الاقتناع والتبنّي أن تأخذ مكانها الطبيعي لتبني طريقة التفكير وأسلوب الحياة بشكل أكثر دقّة مما كانت عليه الشخصية قبلها.

أسلوب القراءة

ابتعادًا عن العفوية في القراءة والتشتّت في اختيار الموضوعات، اتبعت في فترة محدَّدة أسلوب قراءة يعتمد على التركيز على موضوع معيّن في فترة محدّدة، وبعد الإنتهاء منه ألجأ إلى الموضوع الآخر، وقد شعرت بفائدة هذا الأسلوب الذي كان الفضل فيه لتوجيهات الحوزة العلمية (حوزة الإمام الصادقE في سوريا)، حيث أقوم باختيار موضوع كالتاريخ مثلاً وتحديد مدّة شهر واحد، أحدِّد مجموعة مهمّة من الكتب التاريخية التي لا بُدَّ من إنهائها في تلك المدّة، وهكذا في العقيدة، والحديث، والسياسة، والثقافة، والاجتماع وغيرها.

الفائدة في هذا الأسلوب أنه يجعلك تركّز على موضوع معيَّن تعيش مع موضوعاته، فلا يتشتت الفكر في موضوعات أخرى، كما أنه يقوم بإعطاء أساسيات كاملة لموضوع معيَّن بحيث تتكوّن لدى القارئ المعرفة الإجمالية بذلك الموضوع، كما أن هناك فائدة أخرى تكمن في طريقة اختيار تلك الكتب في تلك الفترة، والسبيل إلى ذلك كان عبر استشارة أحد المتخصصين في ذلك الموضوع ليحدَّد مجموعة من الكتب المهمّة في ذلك المجال..

أما الآن، فإن ما يملي عليَّ نوع القراءة، فهو الحاجة التي تقتضيها المرحلة الراهنة سواءً في مناقشة بعض الطُّروحات الحديثة، أو معرفة المعالجات الجديدة، أو لسدّ الفراغات الفكرية، والاستفادة العلمية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فالباعث هو متابعة الجديد قدر الإمكان.

القراءة مشروع حياة

من أهم القناعات التي توفّرت لديَّ حول عادة القراءة، هي أن القراءة ليست مهمة من مهام الحياة التي يمكن للمرء أن ينجزها، ويفرغ منها لينصب في عمل آخر بعدها، وإنما هي مشروع حياة لا ينبغي أن يفارق الإنسان، باعتبار أن القراءة هي أبرز مصاديق التعلّم وطلب العلم الذي أمرنا أن نستمر فيه حتى نهاية حياتنا، كما قال الرسول الأعظمA: >اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد<..

وتأسيسًا على ذلك، فإنني اتخذت قرار أن أكون متلبّسًا بالقراءة طول الحياة، أما الأسلوب فإنني أحدد كتابًا أو أكثر للقراءة، وأشرع في آخر بعده مباشرة ومن دون انقطاع، حتى لو تعذّرت بعدم التوفر على الوقت، فإن مؤشّر القراءة موجود في صفحات الكتاب، لأبدأ القراءة في أيِّ وقت حصلت على الوقت.. وبهذا أصبحت أبشّر الآخرين بذلك وأدعوهم إلى تبنِّيه، وطرحت هذا الأسلوب في محاضرة تحت عنوان >كيف تستثمر طاقاتك البسيطة<([1])) p="">

ولذلك أعتقد أن أيَّ إنسان بإمكانه الحصول على الوقت، وما أكثر الأوقات التي تتسرّب من حياتنا دون الاستفادة منها، فكما يفعل الآخرون في عادة القراءة، عند انتظار القطار ورحلة الطيران، وماشابه ذلك، قرّرت أن أكسر الحاجز وأن يكون رفيقي الكتاب في أوقات كثيرة، لأتصيّد الفرص للقراءة، ففي انتظار المعاملات في وزارات الدولة أو المستشفى أو في حال السفر، وبالفعل قد أنهيت قراءة الكثير من الكتب في هذه الأوقات التي لم تصبح ضائعة..

هنالك أسلوب آخر في القراءة قد يفرض نفسه عليك، فعندما تجد كتابًا نادرًا عند أحد الأصدقاء، أو تصادف كتابًا من الصعب أن تحصل عليه مرة أخرى، وأنت ترغب في قراءته، فالحل لاغتنام الفرصة هو استعارته حسب المتاح، فقد يكون لا يمكنك إلاَّ أن تحتفظ به لليلة واحدة، فعليك أن تقوم بقراءته بصورة خاطفة سريعة، ولو بالاطِّلاع الإجمالي، ولا شك أن مثل هذه الفرص تمرُّ على الإنسان كثيرًا.. حاولت تطبيق هذه الفكرة، خصوصًا أنني أعرف قصصًا عن علماء كبار قد فعلوها، كالعلاّمة الشيخ حسين العصفور، والإمام الشيرازي (قدس سرّهما).. في هذه الحالة يتطلب من القارئ أن يلغي ارتباطاته لهذه الفترة الوجيزة، وسوف يشعر بعدها بنشوة الانتصار والإنجاز.

الكتابة ومخاضات النشر

أن تعيش مع الكتاب فلا بُدَّ لحبِّ الكتابة أن يتكوّن في داخلك، باعتبارها صانعة القراءة، فلولا وجود كتّاب سكبوا حبرهم على الورق كتابةً، لما كان كتاب، وخصوصًا إذا كانت لديك قناعة بأثر الكتاب في حياة الإنسان وأهميته، وبذلك ابتدأت طريق الكتابة منذ نعومة الأظفار، وتحديدًا في مرحلة الدراسة الإعدادية (المتوسطة)، فكانت أولى المحاولات، أني أخرجت مجلة أسبوعية في المدرسة، فكانت كلها بجهدي الفردي، ثم اشترك معي أحد الأقارب، وهذه المجلة تشابه مجلات الصغار، فكانت تحتوي على القصص المرسومة، وعلى معلومات عن العلماء، وعن العلوم، ولأنني كنت هاويًا للرسم فقد كنت أرسم كل مواد المجلّة أيضًا، وأوزِّعها على المعارف وبعض المدرّسين، وكانوا ينتظرون خروجها بلهفة بداية كل أسبوع.

وأما مرحلة الثانوية، فقد كنت أكتب مقالات قصيرة من وحي القراءات التي كنت أقرؤها، فإذا قرأت عن الصداقة كتبت مقالاً عنها، وإذا قرأت عن الأخلاق سارعت في تدوين مقال عن ذلك، وهكذا.. أما وسائل النشر حينها فهي المجلات الحائطية التي كانت توزع في المساجد، ولعل هذه التجربة هي أول تجربة للنشر شبه العام، بحيث يمكن لروّاد المساجد أن يقرؤوا ما أكتب.

بريد القرّاء

وقد شجّعني النشر في المجلات الحائطية على أن أتقدّم خطوة أخرى نحو النشر في الصحافة عبر (بريد القرّاء) وبالفعل عزمت على ذلك، فوجدت
ما أكتبه ينشر بالفعل، فتشجّع معي أحد الأصدقاء وبدأ يكتب كذلك، وبعدها شعرنا أن صفحة بريد القرآء هي صحيفتنا الحقيقية؛ لأننا نكتب ما نود كتابته، بل وقد كان كتّابها معروفين لدينا بأسمائهم فقط، حتى إننا بدأنا بالرد على بعضنا البعض من خلال هذه الصفحة، وأذكر أنني ذات مرة كتبت منتقداً صحفنا المحلية التي تضع الكلمات المتقاطعة -تلك اللعبة الثقافية المسلية- أنتقد توجههم في وضع معلومات سطحية وذات طابع يشجّع الشباب على معرفة أسماء المغنيين والمغنيات ولا همّ لها سوى ذلك.. خلافًا لبعض الصحف العربية التي نرى أنها تحتوي موضوعات أفضل، فقامت إحدى الكاتبات بالردّ عليَّ مؤيّدة أسلوب صحافتنا في ذلك، وبعدها عزمت على الرد، إلاَّ أنني فوجئت
بردٍّ من قلم آخر من قريتي لإحدى الأخوات في حيّنا، ترد مدافعة عن
ما كتبته، فعرفت أن لصحافتنا تلك متابعين.. ولازلت أحتفظ ببعض تلك القصاصات..

وفي أواخر المرحلة الثانوية، بدأتُ دراسة العلوم الدينية في المساء، حيث شرعتُ فيها بدراسة علم الفقه، والنحو، والمنطق، وشعرت حينها أنه ينبغي أن أكتب كتابًا حتى لو كان صغيرًا.. خصوصًا أن الكتيبات الصغيرة التي كنت أداوم على قراءتها للسيد هادي المدرسي (حفظه الله) كانت تحفّزني للكتابة عبر أسلوبها الشَّائق في عرض الفكرة وواقعيتها، بل وأثرها.. فكانت البداية هي أن أقلّد أسلوب السيد المدرسي في الكتابة.

فاستعنت في التقنيات الكتابية بالكتاب الذي كنا ندرسه في الثانوية عن البحث واسمه (دليل الطالب لمنهج المكتبة والبحث) حيث يعرض أهمية الكتاب، وأثر البحث وأنواعه، وأسلوبه وأدواته، معتبرًا ذلك الكتاب كتابًا خارجيًّا وليس مدرسيًّا، بهذا أعيش أجواء أكثر حرية.. وبالفعل قمت بكتابة كتيبين صغيري الحجم، أعطيتهما لسماحة العلامة الشيخ عبد الأمير الجمري (يرحمه الله)، فكتب لي مقدمتين مشجّعتين، لا زلت أحتفظ بهذين الكتيبين حيث لم أنشرهما، لأنهما يحتاجان إلى إعادة نظر وتصحيح.

مجموع ما كتبته على هيئة كتيبات في تلك الفترة ثلاثة، تحت عنوان (المجالس الإسلامية) أو مجالس الذكر، و(الإمام الحسين E شمعة القلب)، و(التفكّر في الماء).. وكانت كلها في العام 1412 للهجرة، حيث كان عمري آنذاك في السابعة عشرة إلى الثامنة عشرة.

وفي الفترة ذاتها، أسَّسنا مع مجموعة من الأصدقاء لجنة ثقافية في القرية، وأصدرنا نشرة باسم (المنار)، ثم أصبح اسمها (ذكرى)، وقد كنّا نمارس فيها الكتابة الواعية والمسؤولة، حول المناسبات الإسلامية المختلفة، مما صقل القدرة الكتابية للمقال لديَّ، وقد كنت حينها حريصًا على قراءة ما يكتب عن طريقة كتابة المقال وأنواعه.

وبعدها بدأت بالكتابة في الصحافة، وأول صحيفة كتبت فيها هي (الرأي العام) الكويتية عام (1998م)، في صفحة آراء وقضايا، جنبًا إلى جنب مع الكاتب محمد الرميحي، ومعصومة المبارك، وأحمد الديين وغيرهم من الكتاب المعروفين، وهذه التجربة جعلتني أعيش مراقبة الوضع الاجتماعي والسياسي والثقافي في أوطاننا، لأكتب عنها، تقييمًا وتقويمًا.. كما كتبت في صحف متعددة على نحو متفرق، وانتظمت لمّدة عام ونصف مع صحيفة (الميثاق) البحرينية بمقال أسبوعي عام (2004م/2005م).

أول كتاب طبع

كتبت أول كتاب خرج إلى النور مطبوعًا، في سنة 1993م، وقد طبع بالفعل بداية 1994م، وقد كان عمري حينها 20 عامًا فقط، واسم الكتاب هو (على منابر من نور) مكوّن من 94 صفحة من القطع الجيبي الصغير، عملت على طباعته في لبنان، حيث استفدت من معرض الكتاب الدولي الذي يقام في البحرين، فقمت بالاتفاق مع إحدى دور النشر على طباعته، وقد كان موضوعه عقيديًّا يثبت مبدأ الولاية من القرآن الكريم فقط.

لم يكن مألوفًا حينها أن يرى المجتمع كتابًا لمؤلف يعيش بينهم، إضافة إلى أن عمره لم يتجاوز العشرين عامًا، كما أن في المجتمع مَن هم أرفع مني مستوىً علميًّا، ولم يقدموا على محاولة كتابية، لذلك فلم أحظَ بالتشجيع الذي يحتاجه كاتب في بداياته في عالم النشر، ليدفعه نحو المزيد من العطاء.. بل لقيت العكس..

لم أتأثر سلبيًّا من الآراء السلبية التي وصلتني؛ لأنني استقبلت بعض الآراء المشجّعة بطريق غير مباشر، فقد لاحظت انتشار الكتاب في بعض الأوساط من دون معرفة المؤلف، وقد أعجبوا به، وفي المكتبات التي كانت تعرض الكتاب كنت ألاحظ البعض ممن يتصفح الكتاب ثم يقوم بشرائه، هذه المشاهدات شجّعتني وأعطتني ثقة أكبر للمواصلة... إلاَّ أنني بعد أن شققت الطريق ونشرت العديد من الكتب، فإني ألاقي الكثير من التشجيع والمتابعة، وخصوصًا من علماء كبار..

جلسة استشارة ومناقشة

فكَّرت حينها -في أول تجربة كتابية- في تطوير قلمي بالفعل، فلم أكن راضيًا عن ذلك المستوى، فقمت بدعوة مجموعة من الأصدقاء المثقفين، وطلاب العلوم الدينية، لجلسة شاي ومناقشة، فكان الاتفاق معهم أن يأتي كل
واحد منهم ومعه مجموعة ملاحظات على الكتاب، لأستفيد من آرائهم.. وقد تمت الجلسة، وجرى النقاش ابتداء من عنوان الكتاب إلى بعض الألفاظ والأفكار..

عزمت على المواصلة فتوكلت على الله، وكتبت الكتاب الآخر تحت عنوان (منهج الثقافة الإسلامية)، ثم (لقاء ثقافي في ريف دمشق)، لقاء من آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي (دام ظلّه).. وتلتها الكتب الأخرى، التي وصل المطبوع منها حتى وقت كتابة هذه الأسطر خمسة عشر كتابًا وكتيِّبًا..

الكتابة رسالة

لم أتصوّر نفسي أن أتوقف نهائيًّا يومًا عن الكتابة؛ لأن الكتابة ليست مجرّد إجراء القلم على سطح الورق، فهي عملية بحث حقيقية، يقوم من خلالها الكاتب بعملية التفكير، ليخرج برؤى ذات رسالة مسؤولة، يصوغها بعد ذلك في قوالب مختلفة لتقديمها للقارئ كمادة جاهزة، وهذا تجسيد لمبادئ مسؤولية التغيير، والمساهمة في الإصلاح، وإظهار الحقائق، والمشاركة في تنمية المجتمع من خلال تزريق المعرفة.

من هذا المنطلق، يمكن صياغة نوع الكتابة التي أسعى إليها، فهي ذات الطابع المسؤول، التي تساهم في إثراء المعرفة وتراكمها، لكي تخلق أجواء وعي يمكن من خلاله أن ينهض الإنسان بمستواه وواقعه إلى الأفضل، وباعتباري طالب علوم دينية، وذي اهتمامات ثقافية واجتماعية، فإنه من الطبيعي أن تكون كتاباتي ذات صبغة دينية ومؤسسّة على تأسيسات الدين، وموجهة للمجتمع بمختلف فئاته.

أثر الكتابة

عندما تزور معرضًا دوليًّا للكتاب، مليئًا بالإصدارات المتنوّعة من كل الدول، وحيث الأساليب المتعدّدة، يراودك تساؤل مقلق، هل يمكن لكتابك أن يأخذ موقعه أمام هذا الكم الهائل من الكتب، ويكون متميِّزًا بحيث يقبل عليه القارئ؟ .. هل سيلتفت زوَّار المعرض لكتابي أو كتبي في زحمة الكتب هذه؟.. وهل سأحصل على قرّاء حقيقيين، يمكنهم الاستفادة مما أكتب؟..

لا أخفي أن هذا الشعور يراودني بين الفينة والأخرى في بداية المشوار، إلاَّ أنني، بفضل من الله تعالى، أحصل على إجابات واضحة في كل مرَّة أفكر فيها بهذه الطريقة، وكأنها رسائل رحمانية موجهّة لي، تقول: اكتب فالأثر موجود، وإنْ لم ترهُ بعينك.. وإن لم يكن قد حصل اليوم، فيمكن أن يحصل غدًا.. فالكتاب باقٍ ما بقي الناس..

وكما أن فائدته يمكن أن تكون ولو بعد حين، فكذلك ثوابه لا ينقطع، ولو بعد رحيل المؤلف إلى عالم الآخرة([2]))، وهذه نعمة كبرى للمؤلفين..

الرسائل التي تصلني عند توارد تلك التساؤلات في خاطري، هي مشاهدات أو شهادات، تبيّن أن الناس متعدِّدون في ذوقهم الثقافي، ويمكن للكاتب أن يحصل على قرَّاء.. فكنت أرى على سبيل المثال أحد كتبي في المعرض معروضًا بأعداد كبيرة، فأراه في اليوم التالي قد تناقص كثيرًا.. أو تأتيني رسائل عبر البريد الإلكتروني أو بشكل مباشر، لتخبرني عن أشخاص قد أثّر أحد كتبي في مسار حياتهم، أو استفادوا منه بشكل كبير.. حتى إن إحدى الصحف قد نشرت صفحة كاملة عن أحد الكتب، فاتصل الصحفي المسؤول، ليسألني عن أماكن بيع الكتاب، لأن القرّاء يتصلون به يتساءلون.. وما شابه ذلك من قصص.. تبيّن أن الكتاب عندما ينشر ويجد لنفسه مكانًا على أرفف المكتبات، فهو بالضرورة سيجد له قرّاء يختلون به..

ماذا يمكن أن أكتب؟

التساؤل المهم الذي ينبغي أن يقف الكاتب عنده صادقًا مع ربّه ومع نفسه ومجتمعه، هو ما الذي عليَّ أن أكتب؟ ما هو الموضوع والجانب الذي أندفع للكتابة فيه وحوله؟

هل أكتب ما يقبل عليه الناس وما يحاكي هوى الكثير منهم من دون النظر لأهمية ذلك الموضوع وأثره؟ وهل الدافع سيكون تحقيق كمية بيع واسعة، ليدّر المال على المؤلّف؟.. ولا شك أننا شاهدنا بعض المؤلّفين ممن ينتهج هذا النهج الذي يشوِّه مسار الكتابة ويخدش رسالتها لديه.. فهناك أبعادٌ مسؤولة ينبغي أن يحسب لها الكاتب حسابًا، وفي وجهة نظري القاصرة، فإن المساهمة في تحقيق شيء من الخير في أيِّ مجال من المجالات هو أول مقصد للكاتب، مقرونًا ذلك بالإخلاص لله تعالى، ثم يأتي دور التفصيل في الموضوعات واختيار أولويتها، ولا شك أن كل ذلك مشروط بمقدرة المؤلف على الكتابة في المجال الذي اختاره..

هناك عدّة بواعث بعثتني لكتابة ما كتبته، وهي أنني عادة ما أبحث عن المساحات الفارغة في موضوع ما، إما من حيث المادة وندرتها، أو من حيث أسلوب العرض المفقود.. كما أن مراقبة الواقع واحتياجاته لها الأثر في تحديد نوع الكتابة؛ لأن ذلك مصداقٌ للشهادة على العصر والمساهمة في تنمية الوعي..
ولا ينبغي أن نغفل الجانب الإبداعي للكاتب، فقد يكون لديه فكرة أو نظرية أو اجتهاد ما، أو استنتاج أو أيّ إبداع فكريٍّ وعلميٍّ في أيِّ جانبٍ من الجوانب، فهذا يدعوه لعرض ما توصّل إليه بصورة مكتوبة..

فعلى سبيل المثال، كتبت كتاب (الحب في العلاقات الزوجية) لأنني
لم أجد كتابًا خاصًّا في هذا المجال المهم، وإن بحث عنه في كتب الزواج فبشكل مختصر، وهكذا كتاب (فنّ الاعتذار وقبول العذر). وكتبت كتاب (فاطمة المعصومة.. الجنّة الموعودة) لما رأيته من صفة الكتب التي كتبت عنها، أنها كانت كتبًا تحقيقية أو مجموعة من قصص الكرامات، مما لا يعطي صورة واضحة للقارئ عن حياتها، فكتبت الكتاب كعرض كامل لحياتها منذ قبل الولادة وحتى الوفاة إلى بناء ضريحها المقدّس.. وكذلك كتاب (نهج الإصلاح.. قراءة في الخطاب الإصلاحي للإمام الحسينE) الذي حاولت أن تكون فيه القراءة للمسيرة الحسينية قراءة ثقافية واستخراج القيم التي يمكن أن تستفيد منها الحركات الإسلامية المعاصرة، وقدّمت مفهومًا جديدًا للانتظار في كتاب (الإمام المهدي الغيب الشاهد)، وحاولت بلورة المسيرة الحسينية، في صورة ثقافة في كتاب (الثقافة الحسينية)، وحاولت في المساهمة في تقديم معالجات فكرية وقرآنية في قضايا معاصرة وملحّة في كتاب (دراسات في مسارات المجتمع والحضارة)..

وهذا لا يعني أن البواعث محصورة في ذلك، فقد يكون الرغبة في الثواب لتقديم شيء مكرّر، باعثًا للكتابة، وقد يكون صياغة مادة من المواد صياغة جديدة باعثًا آخر، أو يكون باعث الكتابة شيئًا، وباعث النشر شيئًا آخر، كمن يكتب لنفسه من أجل أن يستفيد من مادة فيبحث فيها ويجمع المواد، فيتراءى له نشرها فيما بعد لتعمّ الفائدة.

معمل الكتابة

المكان المفضّل للكتابة هو بين أحضان الكتب في مكتبتي المتواضعة بعيدًا عن الضجيج، وأما الوقت فأفضله هدوء آخر الليل، ويليه الصباح الباكر، فأبدأ مراحل الكتابة التي تبدأ بتحديد الموضوع، ثم المطالعة العامة، ثم كتابة المحاور، ثم المطالعة التفصيلية حول المحاور، ثم وضع التساؤلات والإشكالات، فعملية الحوار مع الأفكار، فالبحث عن النتائج والمستندات الفكرية.. فتبدأ مرحلة أخرى هي عرض المادة وصياغتها، وأسلوب تقديمها للقارئ، وفي كل المراحل لا بُدَّ للقلم أن يكون ملاصقًا للتدوين.. بل تتواصل ضرورة الإمساك بالقلم في كل حين، وفي كل مكان حينما أكون في حال إعداد مشروع كتابي؛ لأن الأفكار تقفز بين الفينة والأخرى لتراها أمامك، فلا بُدَّ من تدوينها قبل أن تحتجب مرة أخرى.. فقد تقفز وأنت تقود سيارتك، أو عند اللحظات الأولى من النوم..

وقد جاء جهاز الكبيوتر ليأخذ مكانه في عالم الكتابة، ليلغي من الوجود نسخة المسوَّدة التي كنا نعدها إعدادًا أوليًّا، وهكذا أصبح للكاتب أدوات تساعده في عملية الكتابة، فيمكنه أن يرسل كتابه أو مقاله من جهازه المحمول إلى الناشر، الصحيفة أو المطبعة بشكل مباشر وفي طرفة عين.. إلاَّ أن القلم يبقى دوره رئيسًا في التدوين على القصاصات أو رسم خطّة البحث أو ماشابه ذلك.

ومن الجدير بالذكر حول أجواء الكتابة، أنه ينبغي للكاتب أن لا يعتمد مادته الكتابية حال الانتهاء من وضع آخر نقطة فيها، وإنما ينبغي أن يقوم بمراجعتها وقراءتها بنفسية القارئ، ومن الأفضل أن يقوم ويترك مادته الكتابية، ثم يعود في وقت مختلف، ليقرأ ما كتب من جديد، ففي هذه الخطوة تظهر في العادة للكاتب مجموعة من المستجدات على مادته، ليقوم بتغيير ما يلزم، حيث ستكون المادة الكتابية أكثر نضجًا.

([1]) طرحت الفكرة في محاضرة بعنوان (نحو مجتمع قارئ)، وستصدر بعون الله هذه المحاضرات في هيئة مكتوبة.

([2]) إشارة إلى الرواية التي تقول: >إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةجارية، أوعلم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.

 

.

من مؤلفاتنا